الحقيقة الاولى. تحرير العراق من الاستبداد والاحتلال ثورة حقيقية.. ليس بمعانيها الانقلابية والثوروية، بل بمعنى التحول من حال الى حال. ويجب ان لا تحجب صعوبة الاوضاع الحالية هذه الحقيقة. فالثورات كالفرنسية والروسية والصينية والامريكية والايرانية، الخ لم تستقر اوضاعها الا بعد اجيال متعددة. والجلبي هو احد اهم مفجري ثورة التحرير هذه، المحطمة للكثير من قيود الاستبداد والاحتلال، والمرافقة بالضرورة للكثير من الفوضوية والتجاوزات واللاعقلانية.. لحين تأسيس النظام واستقراره.
الحقيقة الثانية: لم يجلب الجلبي الامريكان للبلاد، بل جلبتهم حماقات صدام.. وعمل الجلبي لا يختلف عن عمل ديغول (او فيصل الاول). فديغول لم يذهب للانكليز –خصومه التاريخيين- ليدخلهم كمحتلين لبلده، بل استثمر حركتهم لطرد المحتل لديه. كذلك فعل “الجلبي” بعد ان اغلقت السبل، واصبح الاستبداد شاملاً حتى “للبعث” وانصار النظام انفسهم.. وتمزقت البلاد ودُمرت، وتوالت التنازلات الوطنية والسيادية، ووضعت تحت الفصل السابع والعقوبات والحصار بسبب المغامرات الطائشة.. بحيث بات المشروع الوطني الاساس هو التخلص من الطاغية بكل الوسائل المشروعة، واستغلال كل التناقضات لمصلحة الشعب. وبعد سقوط الطاغية وتحرر الشعب، تحول الجلبي الى المشاكس الاول لامريكا ومشاريعها في العراق. وان الجلبي كان اول من رفع شعار “الحكومة الانتقالية” قبل التغيير. ورفض رفضاً قاطعاً اي شكل من اشكال الوصاية والانتداب والاحتلال للبلاد.
الحقيقة الثالثة: كان النظام السابق صديقاً جيداً للامريكان حتى اجتياح الكويت. وقد كشفت وثائق “ويكليكس” المنشورة في كانون الثاني ٢٠١١ تقرير السفيرة الامريكية “ابريل كلاسبي” بعد لقائها بصدام (٢٥/٧/١٩٩٠). يقول صدام حسب التقرير: “تعاني بلاده من مصاعب مالية خانقة، مع ديون تجاوزت ٤٠ مليار دولار.. وتواجه بلاده هذا الواقع مع انها احدثت بانتصارها في الحرب ضد ايران، فارقاً تاريخياً بالنسبة للعالم العربي والغرب”.. و”اعرب صدام عن امله في التوصل الى علاقات جيدة بالولايات المتحدة”.. ودعا الى “التذكر بان بغداد هي التي حمت اصدقاء امريكا في المنطقة، عبر الحرب مع ايران، وشدد على ان العراق دفع ثمناً باهظاً في سبيل ذلك” وواصلت كلاسبي “قال صدام انه مقتنع بان واشنطن ترغب بالسلام ولكن عليها التوقف عن لي الاذرع”.. ونقلت كلاسبي كلامها قائلة “ان الادارة الامريكية طلبت منها السعي لتعميق العلاقات مع العراق”، وشرحت بالقول “نحن نسأل عن نواياكم بروح الصداقة، وليس المواجهة” واشارت “ان صدام وعدها بعدم القيام بخطوات عسكرية اذا حصل على بصيص امل من الموقف الكويتي”.
الحقيقة الرابعة: كان الجلبي شجاعاً متصدياً لا تأخذه في الحق لومة لائم. فهو عنيد في الدفاع عما يعتقد به.. لكنه لين عندما يرى ان حقه او موقفه ليس موضع اجماع او اتفاق، فكان يسكت او يتراجع في موقفه، دون ان يتنازل عن مبدئه. يكشف الخلل والانزلاقات والانحرافات والفساد في صفوف اقرب الناس او القوى اليه، دون حرج او تردد.. ويقف مع ابعد الناس عنه لا لشيء الا للوقوف مع الحق ضد الباطل.
الحقيقة الخامسة: لم يكن الجلبي قوياً بالكم والعدد.. بل بالحجة والنوع والحضور العقلي والميداني. فكان مؤسسة بذاته. يعرف الارقام والقوانين والتاريخ والجغرافيا والشخصيات والاحداث جيداً. ذاكرته وذكاؤه يفوقان المعدلات الطبيعية.. ونباهته وعلومه متميزة بمستوى كبار الشخصيات العالمية، ناهيك عن العراقية. فهو يبتسم في اصعب الظروف، واشدها قسوة، بما في ذلك على شخصه رحمه الله. لم يكن للجلبي مشروعاً دينياً او علمانياً او قومياً او فئوياً او لمصلحة هذا البلد او ذاك او خاصاً به وبمصالحه وطموحاته. كان مشروعه هو شعب العراق ومظلوميته وحقوقه، ولا شيء اخر. لذلك تكاثر عليه المزايدون والاعداء من اصحاب الاجندات.. كل يتهمه بضده. فالدينيون يتهمونه بعلمانيته.. والعلمانيون بدينه ومذهبه.. والقوميون بليبراليته، الخ، لذلك كثر اصدقاؤه كما كثر خصومه.
هذا قليل من كثير من خصال الجلبي الذي خسرناه. والحري بنا ان نقيم له نصباً اكراماً لرجالاتنا الكبار. {من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه، فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلاً} صدق الله العلي العظيم.
عادل عبد المهدي