النجاح والفشل وحسن الاستعدادات للمستقبل يرتبط بحسن “تقدير الموقف”، الذي يهتم بالتوجه العام، وليس التفاصيل والتفرعات المضللة احياناً. وقف العالم –والعراقيون خاصة- قبل عقدين مثلاً، متسائلين، هل ستهاجم الولايات المتحدة العراق ام لا؟ والجواب، تستتبعه، بالضرورة، سلسلة من الاستعدادات والتحضيرات والمواقف التي تصنع الاحداث اليومية، والمواقف المستقبلية وتفسرها. فنظم “الحاكم” سلوكه باستبعاد احتمال الاجتياح. فاستمر بسياسات الحافات الحادة التي اوصلت الامور الى اللاعودة باتجاه الحرب، معتمداً فرضية احادية ان امريكا لن تهاجم، وتهمش دور “النظام العراقي” لصالح عدوها اللدود ايران، مستذكراً مشهد الانتفاضة الشعبانية (١٩٩١) و”خيمة صفوان” بين “شوارزكوف/ خالد بن سلطان” و”سلطان هاشم” وبحضور الممثل الروسي “بريماكوف”. فعول “صدام” كثيراً على الاحتجاجات الرافضة للحرب.. ولم يقدر جيداً التطورات الداخلية العراقية، واثار الحصار، وفرض منطقتي الحظر، الشمالية والجنوبية.. ولا صعود “المحافظين الجدد”.. وتفرد امريكا، بعد تفكك الاتحاد السوفياتي، وانشغال روسيا بنفسها.. فساهم في تعجيل الحرب. فسقط النظام، وجاء عرض “صدام” -او من تكلم باسمه- للتفاوض مع الامريكان وهم يحتلون العراق، متأخراً، ليسجل “تقدير موقف” خاطىء آخر.
يمر العراق والعالم بمفترق طرق معقد.. فالعلاقات الروسية الامريكية بين توافق وخصومة.. والتوتر بين السعودية وحلفائها وايران وحلفائها وصل اقصاه. وتركيا تطالب بـ”منطقة آمنة” حدودية وتريد المشاركة في معركة الرقة والموصل، وترفض الانسحاب من “بعشيقة”. فما هو “تقدير الموقف”؟ وهل تشير البناءات الظاهرية والباطنية لترجيح الحرب وتوسعها، ام التوافقات والحلول المفصلية؟
لابد ان يكون “تقدير الموقف” محدداً او اقرب للتحديد، فكامل الخطط الانية والمستقبلية ستعتمد عليه. من ناحيتنا، نبني على طرد الوجود العلني لـ”داعش” من الموصل، والوصول لتوافقات اجمالية بين القوى المحررِة. ورأينا ان المنازعات والحروب المحلية التي تجري هنا وهناك هي تصفية لحروب سابقة او جارية وصلت حدودها، اكثر منها مقدمة لحروب جديدة. فهي ضغوطات ومقدمات لتحسين شروط التفاوض اكثر منها نقاط اللاعودة باتجاه الحرب. فالحروب العالمية –كالحرب الاولى والثانية- فقدت الكثير من مقوماتها الجيوبوليتكية والايديولوجية واشكال وادوات الهيمنة والمنافسة والصراع. ومع تطور اسلحة الدمار الشامل بات النصر متعذراً، وكلفه اكثر من مكاسبه. ونسجت العلاقات الدولية منظومات مختلفة عن القرون الماضية تماماً، تجعل الحرب الشاملة امراً صعباً للغاية. وتراجع ايضاً منطق الحروب المباشرة بين الدول الاقليمية نفسها.. ولعل الحرب العراقية الايرانية كانت اخرها. فالكلف اكبر من قدرات التحمل.. والعامل التدميري لطرفي النزاع بات رادعاً.. والغطاءات الدولية حذرة من توسعها، لئلا تصل اليها. وهنا لا تسير الامور وفق نظرية “الدومينو”، بل وفق قاعدة “التخثر” (حركة صفائح الدم لوقف النزف) واحتواء الازمة.
ان ما يجري في العراق وسوريا واليمن وليبيا والبحرين، وبلدان اخرى، هو تدخل لضمان الدور الاقليمي او الدولي لهذا الطرف او ذاك، لحسم منازعات داخلية، ممزوجة بتعقيدات الحرب ضد الارهاب او استغلالها. فالحروب جنون، لكنها مشاريع حياة وموت تستخدم فيها اعلى درجات الحيطة والحذر، وادهى العقول والتقديرات الواقعية والعلمية والحسابية. وان اندلاع حروب البندقية اسهل من حروب المدفعية.. والاخيرة اسهل من حروب الطيران والصواريخ.. وهذه اسهل من حروب الدمار الشامل. لذلك وصلت المنازعات بمختلف مستوياتها لسقوفها الاخطر، والتي كانت ستفجر حروباً اوسع، لو كانت هناك شهية، او قابلية لذلك. على العكس، تتم محاولات السيطرة على عوامل التصعيد، عبر المفاوضات والوساطات والتوافقات.. كما في الملف “النووي الايراني”، ووقف الهجوم على سوريا مقابل سلاحها الكيمياوي، والتوافق على عون رئيساً للبنان والحريري رئيساً للوزراء، ووساطات اليمن، وتنسيق جُل اللاعبين الاقليميين والدوليين مع الحكومة العراقية، ولو كلٌ حسب رؤاه واهدافه، وهلمجرا. وان “تقدير الموقف” في المحصلة، وليس بالضرورة في التفاصيل، يتجه، حسبما نرى، نحو تقليص (وليس انتهاء) مساحات النزاعات المسلحة، وهو ما يجب الاستعداد له اساساً. وان تحرير الموصل لن يكون مقدمة لحرب اوسع، كما يقول البعض، بل مقدمة لتوسيع دوائر التوافق والسلم القلقة يقيناً، والمترافقة بشد وجذب، وتفجرات محلية، اقل حدة من السابق ويسهل تطويقها نسبياً، ما دامت عوامل “التخثر” موجودة.
عادل عبد المهدي