لن نتلكم عن التاريخ القديم، بل نقف عند العقود المنصرمة، واذا تركنا جانباً مراجعنا العظام وعلمائنا في العلوم الطبيعية والانسانية والقانونية والهندسية والعمرانية والادباء والشعراء والنحاتين والرسامين والموسيقيين والرياضيين والاعلاميين، الخ، ووقفنا عند السياسيين، فماذا نرى؟.. نرى قادة ومجاهدين ومناضلين، رجالاً ونساءاً، قضوا عقوداً طويلة، فيما امنوا به، دفاعاً عن شعبهم ومعتقداته وحقوقه وحرية الرأي متدينين كانوا ام وضعيين، مسلمين او مسيحيين او صابئة، عرباً او كرداً او تركماناً او ازديين او شبك او فيليين.. وراء كل منهم سنوات طويلة من العمل في المدن والارياف والجبال والاهوار، وفي المطاردة والسجون والتعذيب وزنزانات الاعدام والتهجير والمنافي، وقصص طويلة من السنين العجاف، التي لو قورنت بالقادة والزعماء في اي بلد مجاور او بعيد لرايت ان تضحيات ومبدئية رجالاتنا ونسائنا لا تقل ان لم تفق بكثير رجالات واسماء تتداولها الشعوب الاخرى لابطالها او يتداولها العالم لشخصيات باتت مشهورة، بينما شخصياتنا يلفها النسيان، بل اغلبهم يشملهم الاهمال والتشويش والتسقيط.
الفارق ان الاخرين يحضون بالرعاية والترويج والتذكير والتمجيد بينما رجالاتنا يهملون ونقلل نحن من شأنهم قبل ان يقلل الاخرون من شأنهم. الاخرون يحبون قصص نجاح رجالاتهم وهم احياء، ونحن ندمرهم ونقتلهم وننتزع منهم اية خصيلة، ولا نتذكرهم ونذكر خيرهم الا بعد الممات. الفارق ان الشعوب الاخرى تتغاظى عن اخطاء الاشخاص وهفواتهم، وهي دائماً كثيرة، وتعظم المنجز ليبقى هو القدوة، ولتذهب الترهات والاخطاء طي النسيان. الفارق –وهو الاهم- ان الاخرين تنجح تجاربهم العامة فيحملها الانجاز العام، بينما نكرر نحن دورة الفشل والتخلف كمجتمع ووعي جمعي ومؤسسات ودولة. فتلاحق السنتنا ومبالغاتنا الهفوات والاخطاء، وتسقط الرجال واعمالهم ومنجزاتهم من خلالها.
لنأخذ اية شخصية معروفة –في الحكم او المعارضة- ولنراجع تاريخها ومعاناتها.. ولنتخلى للحظة عن انحيازاتنا القومية او المذهبية او المناطقية او السياسية، او المزاجية ولنقيم الشخصيات مقارنة باقرانهم في الدول الاخرى، وسنجد ان شخصياتنا قدمت نوعاً وكماً وتضحية اكثر، وشخصياتهم قدمت اقل، لكن سلوك الشعوب الاخرى كان ارقى، وسلوكنا كان اقل، فوقفوا اكثر مع رجالاتهم ووقفنا اقل مع رجالاتنا، وتجاوزوا اكثر اختلافاتهم وعمقنا اكثر خلافاتنا، فاستفادوا من خير بعضهم وتجاوزوا اخطائهم، وبقينا عند اخطاء رجالاتنا وخسرنا خيرهم.
ما دفعني لكتابة الخاطرة هو ما قرأته من تسقيط لبعض رجال الاعمال العصاميين والذين نجحوا في الارتقاء بانفسهم من ابسط الاعمال لارقاها وبشهادة كبريات المؤسسات العالمية والمراكز المتخصصة.. واعتمدوا ويعتمدون كلياً على امكاناتهم، وقدموا ويقدمون خدمات جليلة للاقتصاد العراقي.. فيحركون العمالة، على صعوبة الظروف، ويحققون الارباح التي يدفعون عليها الضرائب. وبدل ان نبارك هذه الاعمال ونشجعها نرى موجات هجومية، وكتابات تشكيكية من قبيل كيف استطاع هؤلاء النجاح بهذه السرعة، وكيف شكل هذه الثروة؟ الخ.. فالنجاح فساد وتهمة.. والفشل فضيلة.
مثال بسيط للمشاريع الناجحة ما تقوم به العتبة الحسينية والعباسية، واخرها مستشفى الكفيل التخصصي في كربلاء.. وقبلها معمل السكر في الديوانية.. فلماذا تنجح هذه المشاريع وبمستويات عالمية وتفشل الدولة عن القيام بها؟ هل سببها ان المال اكثر؟ ام سببها ان العتبة تعمل مباشرة، فتولي المشاريع لاهل الخبرة، فيختارون الارقى، وبطرق بسيطة ومباشرة، ورقابة وتدقيق لا يعرقلان، وتكاليف اقل وباشراف مباشر من مسؤولين ثقاة.. بينما تعتمد مشاريع الدولة على نقيض هذه السياقات تماماً. هذا مثال لقصة نجاح، قد لا تخلو من اخطاء وسلبيات، وهذا امر طبيعي، لكنها مثال يجب ان تتعلم منه مؤسسات الدولة وقوى المجتمع عموماً.. فكلما روينا قصة نجاح واحطناها بالرعاية، كلما سمحنا لعوامل التأخر، وما يلازمها، ان تتراجع.. ولعوامل الخير، وما يلازمها، ان تنتصر.