Menu
Al-adala
Al-adala

بسم الله الرحمن الرحيم
وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى
صدق الله العلي العظيم

أن تَأخُذَ فلوبير على محمل الجَدّ

أن تَأخُذَ فلوبير على محمل الجَدّ
ادب وثقافة - 1:53 - 18/01/2017 - عدد القراء : 2572

كان ضجراً لا يُحتمل ذلك الذي راح يخنقني وأنا أقرأ “مدام بوفاري” لأول مرة. آنذاك، كنتُ مراهقاً في الخامسة عشرة، يَحلم بأن يصير كاتباً مشهوراً. لست أدري ما الذي دفعني حينها إلى قراءة هذه الرواية، لكنني أذكُر جيداً ساعات الملل أمام صفحات لامتناهية من الوصف التفصيلي لأتفه الأمور وأصغرها، كالأقمشة متعددة الأشكال والألوان التي استُخدِمت في خياطة قبعة، أو انعكاسات الضوء على لوحات زيتية معلّقة على حائط.لعلّ فلوبير لم يرتضِ منزلة الكاتب العظيم وما قد تنطوي عليه من مقدرة فائقة على بث السأم في النفوس، إذ راح، خلسةً ثم بإلحاح، يُطاردني. على نحو متزايد، صار اسمه يرد هنا وهناك في قراءاتي، وأخذَت ملامح صورته الأسطورية ترتسم شيئاً فشيئاً في مُخيّلتي، صورة الكاتب الناسِك التي استبدّت بكثيرين (وحاول كثيرون أيضاً التخلّص من براثنها)، من مُريده موباسان مروراً بكافكا الذي أبصر في صباه مناماً حيث كان يقرأ، بصوت جهوري وبالفرنسية، “التربية العاطفية” أمام حشد غفير من المستمعين، وصولاً إلى ماريو بارغاس يوسا الذي خصّ الزانية الغنية عن التعريف بكتاب كامل.وهؤلاء الثلاثة هم من ضمن زمرة كُتّاب كنتُ، سعياً إلى الإثبات لنفسي أنني مشروع كاتب كبير، أجهد في التماهي معهم ومع آرائهم الأدبية وغير الأدبية، بدلاً من مزاولة فعل الكتابة يومياً وبانتظام. بل إنني نادراً ما كنت أكتب، مكتفياً بأحلام يقظة عن أمجاد ستنهمر عليّ، وبالكاد سألحظها أو أعيرها اهتماماً، فأتخيّلني مثلاً، بمناسبة تسلُّمي جائزة “نوبل”، ألقي خطاباً موجزاً مُترفِّعاً، ومليئاً بالدُرر، أمام جمهور مشدوه ومسحور، فاغر الأفواه. وكانت الأيام والشهور تتعاقب سريعاً وأنا قابع في مكاني، أحلمُ بالشهرة وأنتظر مجيء الإلهام.إلا أن اكتشافي لشخص فلوبير، من خلال ما كتبَتْه عنه زمرة من كنتُ أقتدي بهم، زعزع أُسُس عقيدتي الأدبية هذه. وإن أول ما لفتني، فأرعبني، كان وتيرة عمله المهولة في بطئها. عَلمتُ أنه كان يكتب لمدة عشر ساعات يومياً، وأن الأربعمئة صفحة التي تتألف منها “مدام بوفاري” كلّفته ثلاثة وخمسين شهراً من الكدح المضني والمتواصل، أي أن الرجل هذا كان يخطّ بريشته سبع صفحات في الشهر، أي ربع صفحة فقط خلال يوم عمل كامل من عشر ساعات، أي ثلاثة وثمانين كلمة، ما يعادل ثماني كلمات في الساعة، أي حوالي نصف سطر. وكان علاوة على ذلك، يمقت الكتابة مقتاً شديداً، إذ يعتبرها نوعاً من أنواع التكفير عن الذنب، ألماً محضاً لا ينطوي على لذة إلا فيما ندر، فلعنها مراراً وشبهها ب”القصاص المدرسي”.ولم يكن سبب بطئه وعذابه شحّاً في الإلهام بتاتاً، بل بحثاً مستمراً ودؤوباً عما يُسميه “الكلمة الدقيقة”. والمصطلح هذا يشير، عند فلوبير، إلى نظرية متكاملة حول فن الكتابة، لم يكن بإمكانها أن تَنْبُت سوى في عقلٍ مريض. فـ”الكلمة الدقيقة” ليست الكلمة (أو الجملة) الأدقّ أو الأنسب لقول أمر ما، بل الكلمة (أو الجملة) الوحيدة التي بمقدورها قول هذا الأمر. إذ يرى فلوبير أن ثمة تماهياً مطلقاً بين المضمون والشكل، بين فكرة ما وطريقة التعبير عنها. وما يَدُّل على بلوغ هذا التطابق المُرتجى بين الفكرة والعبارة، هو وقع هذه الأخيرة على السَمَع. فكان فلوبير يُخضِع جميع نصوصه لامتحان عصيب، فيقرأها لنفسه بصوت مجلجل، مُنصِتاً بعناية فائقة إلى موسيقى الكلمات والجمل. وكانت أي شائبة سمعية تلتقطها أذنه، مهما صَغُر شأنها، دليلاً قاطعاً على خلل فادح يشوب ليس فقط طريقة التعبير، وإنما الفكرة بحدّ ذاتها، فيترتب على ذلك مزيد من ساعات العمل الطويلة والمرهِقة.إن نظرية التطابق هذه بين مُحتوى القول وشكله، بين صواب الفكرة من جهة، وموسيقية الجُمَل التي تُجَسِّدها من جهة ثانية، تستند إلى تَصوُّر صوفي لماهية الكتابة لم يشرحه فلوبير أبداً بشكل واضح، إلا أن تبيان أبرز سماته – ومدى جنون صاحبه – ليس بالأمر العسير.تَفترِض هذه النظرية ما يلي: بما أن الإنسجام بين الشكل والمضمون، بين عبارة وفكرة، هو تام ومُطلق، أي أنه لا يمكن استبدال أحد عُنصرَيه بآخر، فهو بالتالي سابقٌ لفعل الكتابة ومستقلٌ عنه. هو إذاً انسجام أزلي ليس من صنيعة الإنسان. وما يلتمسه فلوبير الملحد والعدمي، حينما ينسُج كلماته وجمله وفقراته وفصوله، إنما هو مجرد محاولة نَسْخ كِتاب سَبق وخطّته يد غير بشرية. عملية الكتابة هي إذاً، بالنسبة لتَصوُّر فلوبير الصوفي، أقرب إلى اكتشاف نَصّ شِبه مُنزَل منها إلى ابتكار أو خلق هذا النَصّ. أي أن كتابة نَصّ يتسم بالكمال، خالد وأبدي، هي بمثابة بحثٍ عن نَصّ أزلي.لكن المفارقة هي أن الكاتب، في سعيه لاكتشاف نصه الأزلي، وحيدٌ لا يمكنه أن يلجأ سوى إلى قواه البشرية المحدودة للغاية، فلا يُعِينه في مهمّته لا وحي إلهي، ولا حتى مجرّد إلهام عادي. وللعثور على “الكلمة الدقيقة”، على الجملة الدقيقة، على الفقرة الدقيقة، إلخ، لم يكن بالتالي أمام فلوبير من خيار سوى الكدح المضني والمتواصل، أي الكتابة وإعادة الكتابة، ثم الإنصات إلى موسيقى ما قد كُتِب وإعادة كتابته من جديد، وهكذا دواليك حتى الإرهاق فالإستسلام. بمعنى آخر، كان فلوبير مُصاباً بهوسِ أو عُصابِ التصحيح. ومن المعروف أن كثيراً من الكُتاب يولون التصحيح عناية بالغة بما هو جزء لا يتجزأ من عملية الكتابة، إلا أن فلوبير تخطى ذلك بأشواط، إلى حد أنه لم يكن في الواقع يكتب، بل بالأحرى يُصحح. وما ألوف الساعات التي استغرقتها كتابة “مدام بوفاري” سوى نتيجة مباشرة لهذا الهوس. ففلوبير لم يكن يجلس أمام مكتبه لكي يتوه في تأمل ورقة بيضاء، إذ أن ريشته لم تكن تتوقف عن خطّ الكلمات والجمل ثم شطبها. والحقّ أن وتيرة عمله لم تكن تقتصر فعلاً على نصف سطر في الساعة، بل تفوق ذلك بكثير. فوراء كل جملة وَجَدت طريقها إلى كتاب مطبوع، صفحات وصفحات من المسودات. وبما أن الحياة قصيرة، والتصحيح مهمة طويلة، تكاد أن تكون لامتناهية، وجد فلوبير نفسه مضطراً إلى العيش كناسك.

blog comments powered by Disqus

مقالات مشابهة

العدالة PDF

Capture

الطقس في بغداد

بغداد
27°
27°
السبت
28°
أحد

استبيان

الافتتاحية