Menu
Al-adala
Al-adala

بسم الله الرحمن الرحيم
وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى
صدق الله العلي العظيم

القصة القصيرة.. ذاكرة التفاصيل

القصة القصيرة.. ذاكرة التفاصيل
ادب وثقافة - 2:39 - 28/02/2016 - عدد القراء : 2238

الإمارات حاضرة وبزخم كبير في الإبداع القصصي الإماراتي، وقد تابعنا هذا الحضور منذ بدايات التشكّل في دراساتنا السابقة، ويمكننا في هذا الصدد أن نشير إلى أن أهم شواغل القص الإماراتي منذ نشوئه تلخّصت في رصد المتغيرات التي طالت المجتمع والدولة وما زالت، فالماضي الذي مضى لم يكن قد مضى منذ أزمنة بعيدة، وإنما زمان عاشه الكتّاب في الطفولة وخزّنوا الكثير مما يمكن تخزينه من صور ورموز وحكايات ارتبطت بالإنسان وأنماط عيشه أو بما يمكن تسميته الخزّان الرمزي: في البحر والبر ونشوء المدن العصرية، لا سيما وأن جغرافيا الإمارات كانت إلى حين محاصرة ما بين بحر وصحراء، بينما الآن هي في قلب العالم ثقافة وحضارة، وما بين الزمنين سعى القصاصون بحماسة لتأكيد خصوصيتهم وموضعتها المكانة التي تستحقها إلى جانب ثقافات العالم، تماماً كما تتموضع الثقافات جميعاً في مدينة ما بعد الحداثة.لتأكيد ما تقدّمنا به لابدّ للدارس من المرور بالكتابات القصصية الأولى لكتّاب وكاتبات القصّة لكي يتأكّد من مدى اهتمامهم بقضايا ذلك الزمان، ويمكننا كبداية التوقّف عند قصّة عبد الغفار حسين كمثال حاضر في البال «وكان الدفتر رادي عليه» وقد نشرت في مجموعة «كلّنا.. كلّنا نحبّ البحر» لنلحظ أن القاص قد انشغل طويلاً بالتراث المادي البحري ومفردات الحياة اليومية؛ فالقصة تناولت معاناة البحّار الفقير «بوبلّول» في ذلك الزمان الذي استحضره، ولكن عنايته بالتفاصيل سوف تثير الدارس أكثر من حكاية «بوبلّول»، ومن ذلك على سبيل المثال: «عيال ناصر، الضغاية، حبال اليدا، الوزار، كندوره، ريوك، الرويد، الكراشي، استكانة جاهي، المشاوة، الدعون، يمعوه، الدهاريز، العود…» وهذه التفاصيل أشبه باللوحة البصرية أو بلقطة فيديو التقطت في ذلك الزمان الذي لم تكن فيه سينما أو تلفزيون.أما ناصر الظاهري فهو بدوره رصد مشهداً مماثلاً ارتبط بأيام طفولته في قصته «العرَصة» حيث جموع الناس في الساحة، يميزهم من خلال ألبستهم، بالإضافة إلى الباعة: ك«غلوم» بائع الباقلاء، و«راشد بائع»النخّي، و«سيّد» صاحب عربة الشربت، ومن هؤلاء جميعاً يختار القاص «أبو بكر الملباري» الشخصية الواقعية بعينيه المعدنيتين وقرفصته التي لا تتغير أبداً.وكتب عبد الحميد أحمد قصصاً عديدة ارتبطت بالحياة اليومية والثقافية لمجتمع الإمارات، ففي مجموعته «على حافة النهار»، يتعرّف القارئ إلى شخصية البهلول «خروفة»، وإلى القرية الإماراتية التي لمّا تستجب للتمدّن بعد، فنلتمس مجتمعاً مستسلماً لحكايات العجائز المؤسطرة للناس والأشياء، بما يمنحها وعيها البسيط من مقدرة على تفسير الظواهر الطبيعية، أو الشخصيات غير الطبيعية ك «خروفة».كما أن عبد الرضا السجواني في قصّة (أم النخيل) يفعّل رمزية الأم لتصبح أماً للنخيل، نظراً لأنها لم تنجب الأبناء، وبهذه الأمومة سوف تعيش سعيدة مع زوجها حمد، فتماهت بالطبيعة وأصبحت جزءاً منها، والتماهي في هذا المستوى يعطي للأنوثة قيمتها الإحيائية.ومن جيل الكاتبات الجدد يمكننا التوقّف عند قصّة (العجوز) لمريم الساعدي التي تعرّضت لحياة الماضي ولأنماط سلوك وعيش أبناء البادية، وذلك من خلال شخصية السيدة المسماة من قبل وزوجها وأبنائها ب (العجوز): و«هي سيدة قديمة من نساء زمان في ثوبها رائحة أغنامها وصدأ صندوقها العتيق» والمفارقة أنها ظلّت متمسّكة بهذه الحياة بينما أبناؤها كبروا وباتوا من الشخصيات المهمة: الأكبر ذو رتبة كبيرة في الجيش، والتالي برتبة أكبر في الشرطة، واللاحق ذو منصب مرموق… أما البنات فقد تزوجن وذهبن لبيوت أزواجهنّ الكبيرة، ومع كل ذلك كانت تأبى أن تغادر خيمتها، بينما كان الناس يعيّرون أبناءها بإهمال أمّهم، وعندما تمّ إقناعها أخيراً بالمجيء إلى المدينة، شعرت العجوز بأن بيوت أبنائها باردة أكثر من اللزوم، والبرودة هنا لها دلالاتها الكثيرة، كما أنها افتقدت حياة البادية وما تمتلكه هناك من أغنام وخيمتها التي هي بيتها، ولكن الأبناء أحاطوها برعايتهم ولم يمكّنوها من العودة إلى هناك كي لا تبقى وحيدة. وبموت العجوز تنتهي الحكاية، ولكن ما لم ينته هو هيمنة حياة المدينة على حياة الصحراء وإغلاق ملف أنماط الإنتاج القديمة في ظلّ المتغيّرات التي طالت الحياة الاجتماعية في مدن وأرياف الإمارات.وفي نسق الأمومة ورمزياتها المتعددة صالح كرامة قصته «يوم من عمر الفرح» حيث يتكاثف السرد على شخصية القابلة أم سنّود التي ولّدت كلّ أبناء الحيّ الشعبي في مرحلة ما قبل المستشفيات الحكومية وحتى بعد إنشائها، والرمزية هنا تكمن في البعد الإحيائي لهذه المرأة التي تتجلّى فيها خصال الأمومة كافة، غير أنها كسائر الناس مرضت ليتحوّل المجتمع بأكمله إلى الوقوف بجانبها سواء بالدعاء أو بالحضور إلى المستشفى وعدم مبارحة غرفتها، ويعكس هذا السلوك مقدار تعلّقهم بها وخشيتهم من مفارقتها لهم، بعدما تم استبدال قلبها بقلب شاب فقالت لصديقاتها بعد عودتها من الخارج: عدت إليكم بقوة سبعين حصاناً. وفي كثير من قصصها انشغلت ابتسام المعلا بمفردات الأمس المنصرم ك: البيت القديم، وصياح الديكة، والشاعر الشعبي «طناف»، ومن ثم الشريط الذي يبدأ بأغنية (مسموح) و (صوت السهارى) و (يا ناعم العود)، كما أنها كتبت عن معاناة شخصياتها وغربتهم الروحية في خضم المدينة الجديدة في مجموعتها «ضوء يذهب للنوم».وهو عين ما فعله إبراهيم مبارك في مجموعته «ضجر طائر الليل» التي تناول فيها مدينة دبي في عشر قصص.. دبيّ المدينة التي ولد فيها ورافق تطورها السريع، أو بالأحرى تغيرها الجذري. وهو ما فعله ناصر جبران في أعماله الإبداعية، وبخاصة ما قدّمه من مفارقات بين الزمنين اللذين عاشهما واختبرهما بنفسه، ففي قصته «الصرخة» الزاخرة بجملة من الرموز المحلية الذاهبة إلى دلالات عدّة، سعى القاص إلى تحذيرنا من هذا الزمن العاصف الذي طال الأمكنة والناس، فاختار مكاناً مألوفاً وحميمياً هو «شارع العروبة» في الشارقة ليرينا ما آلت إليه أمكنته والذاكرة المرتبطة بروح هذه الأمكنة التي كانت إلى حين تصيغ الوجدان الجمعي كشجرة «الرولة» أيام عزها، وتلك اللحظات التي أمضاها تحت ظلالها الوارفة «بينما الرجال ترتفع حناجرهم بأهازيج من الغناء الشجيّ، متمنطقين بأحزمة الرصاص، يقذفون بنادقهم عالياً مثل رايات تخفق في سماء مكشوفة..»وختاماً يمكننا التوقّف عند القاص محمد المر الذي رصد المتغيرات الاجتماعية لمدينة دبي عبر مجموعاته التي بلغت ثلاث عشرة مجموعة قصصية، وقد اعتبره النقّاد أكثر القصاصين تمثيلاً للواقع الجديد، ففي قصته الطويلة «عشاء على ضوء الشموع» وهي قصّة تبيّن مواقف شخصياتها من المدنية الحديثة وقيمها من خلال زوجين لطيفين ومحيطهما الاجتماعي، فمنذ بداية القصة تطالب الزوجة زوجها بقضاء أمسية على ضوء الشموع في أحد المطاعم الراقية بدبي، إلا أنه لم يكن يستجيب لرغبتها البسيطة هذه نظراً لأن هذا التقليد لم تعرفه أسرته من قبل، مما يؤكّد أن الواقع الجديد سيفرض نفسه على حياة الأسرة، وإن تقاليد الأمس باتت طيّ الماضي، إن إصرار الزوجة على الاندماج في حياة المدينة، إنما هو بمثابة إدراك ووعي بأهمية هذه التفاصيل الصغيرة في حياة الأسرة كي تبقى مترابطة فلا تعيش العزلة بينما العالم من حولها ماض في حياته، فمن خلال الحوار بين الزوج والزوجة يلتمس القارئ بعض معالم دبي من خلال تعداد الفنادق الفخمة التي تضم مطاعم متعددة «المطعم الصيني في فندق الميتروبوليتان، المطعم الإيراني في فندق الأنتركونتننتال، مطعم الأسماك في فندق الفورتي غراند….» وسوف تشير هذه الأمكنة إلى فضاء دبي المحتوي على جنسيات العالم كافة من خلال حضور المطاعم الكبير سواء في الفنادق أو في الأسواق والمراكز التجارية، وهي لفتة ذكية للإشارة إلى ممكن التعاطي مع هذه الثقافات التي دخلت حياة الناس الاجتماعية، وإن كانت غيّرت طبيعة العلاقات السائدة، فإنما للأفضل بدليل خاتمة القصّة حيث يشعر الزوجان بأن هذا اللقاء على ضوء الشموع قد عزز روابط المحبة والإعجاب المتبادل بينهما.طبعاً الأسماء كثيرة ولا يمكننا في هذه العجالة من تناولها، ولكننا نؤكّد أنها جميعاً ارتبطت بالمكان وزمانه، وعبّرت عن ذلك خير تعبير.

blog comments powered by Disqus

مقالات مشابهة

العدالة PDF

Capture

ملحق العدالة

mulhaq-preview

استبيان

الطقس في بغداد

بغداد
24°
30°
Sun
30°
Mon
الافتتاحية