Menu
Al-adala
Al-adala

بسم الله الرحمن الرحيم
وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى
صدق الله العلي العظيم

رواية الحياة المتناثرة

رواية الحياة المتناثرة
ادب وثقافة - 0:41 - 25/01/2016 - عدد القراء : 810

الذين يذهبون إلى القول بأن كتاب الرواية لا يروون في العمق سوى سيرهم الشخصية، أو نتف مبعثرة منها، ليسوا مخطئين تماماً. ذلك أن الفنان، شاعراً كان أم روائياً، أم خلاف ذلك، لا يستطيع أن يخرج من نفسه إلاّ ليلتقيها في أماكن أخرى، ولا يستطيع أن يستولد في غير ترابه الداخلي ثمار الحقيقة الإنسانية. وليس بالضرورة أن يبدو التماهي كاملاً بين كاتب الرواية وأبطال معينين في رواياته، بل يمكن للمؤلف أن يقسم نفسه بين «جسوم كثيرة»، على حد عروة بن الورد، وأن تحمل كل شخصية يخلقها فلذة من تمزقات روحه المثخنة بالأسئلة والمكابدات. وحتى الروايات التي تتكئ على التاريخ لا تخرج عن هذا السياق، بحيث لا يحتاج القارئ إلى كبير جهد لكي يرى التشابه القائم بين شخصية ليون الإفريقي وشخصية أمين معلوف. لا بل إن معلوف المنادي بالهوية المركبة وحوار الحضارات لم يختر شخصيات ماني وعمر الخيام وليون الإفريقي وغيرهم إلا بوصفهم أقنعة مختلفة لصورته في مرايا التنوير والتعدد والانفتاح على الآخر.غير أن فكرة المناطق المشتبكة بين الرواية والسيرة لا تبدو جلية عند أحد من الروائيين، كما تبدو عند الكاتب اللبناني رشيد الضعيف الذي يبدو كل عمل من أعماله صدى لواقعة من وقائع حياته، أو فصل من فصولها. ولم يكن استخدام صاحب «ناحية البراءة» لضمير المتكلم في معظم رواياته مجرد استمراء مزاجي لهذه الصيغة التعبيرية، بقدر ما هو انعكاس للعلاقة العضوية الوثيقة بين الكاتب وكتاباته التي تبدو كل منها شبيهة بمرآة عاكسة لروحه وفكره وأحوال نفسه. يبدو الضعيف من هذه الزاوية وكأنه يريد عبر الكتابة أن يلم نثار حياته المشظاة بفعل الحروب، أو المتباعدة بفعل النزوح المستمر عن نقاط البدايات أو المشرفة على الغياب بفعل عطبٍ طارئ في الذاكرة. كل شيء ينبغي أن يُسترد إذاً من غياهب النسيان، وأن تحفظه الكتابة من الاندثار. هكذا يطارد الكاتب تفاصيل حياته من الصغيرة إلى الكبيرة كما تطارد الذئاب قطعان الخراف الضالة. ولا شيء عنده يفوق الوصف، كما يعبر في أحد دواوينه، وهو الذي هجر الشعر إلى الرواية واختار لغة جارحة في حينها دون أن يفارقها هاجس الطرافة والنزوع إلى رثاء العالم.أما في روايته الأخيرة «ألواح» فيعمد رشيد الضعيف إلى إزالة الغلالة الفاصلة بين الرواية والسيرة، وليقدم دون مواربة نتفاً من طفولته وصباه وفترة نضوجه هي غاية في الجرأة والبوح والصدق مع النفس كما مع القارئ. يعود الكاتب إلى اللحظة المؤسسة لفساد الحياة مسلطاً الضوء على صورة الأب المتحكم بمقاليد العائلة، وعلى الأم التي لا هوية لها خارج الامحاء التام في هويات أبنائها الكثر. وعلى الشقيق الأكبر الذي بترت ساقه في إطار الصراع الدموي المزمن بين عائلات البلدة اللبنانية الشمالية، كما على التفاصيل اليومية لعالم الطفولة الموزع بين برد الطبيعة القارس وبين عوز الأبناء إلى ما يفيض عن الطعام الشحيح والخبز العاري. لا بل إن فقدان الأخ الأكبر لساقه بدا بفعل سخرية الأقدار نتاجاً للوليمة اليتيمة وغير المألوفة التي أقامها الأب الرازح تحت وطأة الفقر تكريماً لزوجته الصابرة، بما دفع النواة الصلبة لحياة الأسرة إلى التفتت والتشظي والاصطدام بالخارج المأساوي.غير أن كل تلك الوقائع والأحداث تتم روايتها في سياق تلقائي وأسلوب محايد وبعيد عن الافتعال أو الكلفة أو التهويل فالحياة والموت والعداء والحب والغيرة والحرب والفقدان وتبدل المصائر ليست لتفاجئ الكاتب أو لتحمله على الخروج عن طوره، ما دامت هذه الظواهر تتكرر في كل زمن وآونة على سطح هذا الكوكب البائس الذي غدا بفعل كشوفات العلم نقطة صغيرة في متاهة الوجود الكبرى. ومقابل عالم العائلة المقفل على جذوره التراجيدية أو عالم الوطن المثقل بحروبه، يبرز عالم الغرب بشقيه الباريسي والنيويوركي الذي تجسده علاقة المؤلف بناتالي، حيث يتابع الضعيف من خلال تأنيث صورة الغرب الاشتغال على المقاربات المماثلة لتوفيق الحكيم في «عصفور من الشرق»، وللطيب صالح في «موسم الهجرة إلى الشمال»، ولسهيل إدريس في «الحي اللاتيني»، دون قصد أو افتعال منه، وهو الذي أقام في باريس لسنوات عدة. غير أن مآل الأمور مع ناتالي لم يكن ليختلف عن مآله مع بطلات الكتاب العرب السابقين، حيث الفروق في المفاهيم وأنماط العيش ومنسوب الحرية كفيلة بإجهاض الرغبات المتأججة وتحويلها إلى نوستالجيا مجردة.مرة بعد أخرى يكشف رشيد الضعيف عن إمكانات لرواية عصية على النفاد وقادرة على تحويل كل نأمة في الوجود إلى مشروع روائي. إنه فيما يكتب لا يكتفي برمي حصاة في بحيرة الحياة الراكدة بل يلقي، عبر لغة مخاتلة ومشبعة بالتوريات، حزمة من الديناميت قادرة على دفع الذكريات الفارقة في سباتها إلى السطوح الظاهرة للغة السرد. وإذا كانت الكتابة، وفق ما يذكره في روايته الأخيرة، نوعاً من العلاج النفسي للكاتب فهي تمنحنا كقراء فرصة الإقامة في حياة موازية والتعرف إلى ذواتنا في مرايا الكتابة.

blog comments powered by Disqus

مقالات مشابهة

العدالة PDF

Capture

ملحق العدالة

Screenshot 2024-05-16 at 00.19.17

استبيان

الطقس في بغداد

بغداد
30°
35°
Sun
37°
Mon
الافتتاحية