Menu
Al-adala
Al-adala

بسم الله الرحمن الرحيم
وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى
صدق الله العلي العظيم

صلاح عبد الصبور: غناء الفارس القديم

صلاح عبد الصبور: غناء الفارس القديم
ادب وثقافة - 3:52 - 20/09/2015 - عدد القراء : 1711

(حبيبي أطفأ المصباح،
وانطفأت مرارته على بدني
وأيقظ حزنه، وأراق من عينيه في وسني
فأيقظني
ومدّ جناحه المحطوم من حولي
وعانقني
ووشوش صوته المنغوم في أذني
يؤرجحني
على أغصان دمعته التي امتزجت، وفرحتَه
وحين أصاب من نفسي الذي يبغيه،
أطلقني
وأغفى في جواري، والمساء يلمّ طرحتَه
لتولدَ في الصباح مرارةٌ أخرى
وتولدَ،
شهوةٌ في الليل، تدفع صدر محبوبي
ليطفئها على بدني)

بتلك الكلمات على لسان الأنثى الممسكة بالزمام طوال القصيدة يدخلنا “صلاح عبد الصبور” إلى عوالم الشعر، لاشيء ها هنا يحول دون الأنثى ودون الوصف المطلق، لكن الأنثى التي تملك الكلمات تصبح مفعولًا به بالخفة اللازمة لخلق الشعر، الأنثى مفعول به لمفعول به آخر، وكأن “عبد الصبور” يتركنا في الفضاءات معلقين، حيث العالم سلسلة محكمة لأفراد يُفعل بها، وتفعل باختلاف السطوة والعلاقات والأشخاص.القصيدة التي تبدأ بكلمة نكرة (حبيب) بينما تضيف لها ياء المتكلم تلك الحميمية، والقبول بإرادة المحبة، فالأنثى لها هيمنة الكلمات، والاختلاء هنا بمفردها، وهي التي تمحو النكران بياء محبة.والمصباح والمرارة ينطفآن ليصحو الحزن، والمرارة المرتبطة بالنهار، والتي لا سبيل لخفوتها سوى بدن الأنثى، والأنثى التي تصير ملازمة لأوقات الحزن، لا يخرج إلا للالتصاق بجسدها.والأنثى تصف النهاية بالانعتاق (أطلقني)، كلمة تدفع في ذهن المتلقي أبعادًا أخرى للعلاقة، فيسعى بمحاصرتها لإطفاء جذوة القصيدة في روحه، حيث الفعل (أطلقني) الذي يشوّش على دافع الاختيار الحر، بإضافة الياء في بداية القصيدة، فتأكل القصيدة مرة تلو الأخرى لتقبل أحيانًا خيار الأمومة المتخفي أمامك حين يريق الحبيب دمعه ليوقظ أنثاه، أو تذهب بك الكلمات لما وراء المحبة والأمومة، ونحو اشتباك العلاقة الشرقية بين الذكر والأنثى في مزيج شعري هادئ.نفس المعادلة التي يصيغها “عبد الصبور” بشكل آخر في وصف تداخلات القوة والقسوة بين الأفراد:
(كان الإنسان الأفعى يجهد أن يلتف على الإنسان الكركي
فمشى من بينهما الإنسانُ الثعلب
عجبًا، زور الإنسان الكركي في فك الإنسان الثعلب
نزل السوق الإنسانُ الكلب؛ كي يفقأ عين الإنسان الثعلب
ويدوس دماغ الإنسان الأفعى
واهتز السوق بخطوات الإنسان الفهد
قد جاء ليبقر بطن الإنسان الكلب
ويمص نخاع الإنسان الثعلب)
لا يختلف أحد على قيمة “صلاح عبد الصبور” الذي تحل ذكرى رحيله الـ34 خلال هذا الشهر. هو قامة شعرية، كان لديه من الجرأة والموهبة ما استطاع من خلالهما التجديد في مسار الشعر العربي، قدّم للقارئ العربي مكتبة رائعة تنوعت ما بين الشعر (6 دواوين)، والمسرح (5 مسرحيات)، والترجمة، والنقد.“صلاح عبد الصبور” من مواليد مايو 1931 في مدينة الزقازيق، التحق بكلية الآداب بجامعة القاهرة في عام 1947، وتتلمذ على يد الشيخ “أمين الخولي” الذي ضمه لجماعة الأمناء الأدبية، عمل بالتدريس بعد أن تخرج في الجامعة عام 1951، لكنه تركه واتجه إلى الصحافة في مجلة “روز اليوسف”. حصل على جائزة الدولة التشجيعية عام 1966، ثم نال بعد وفاته جائزة الدولة التقديرية عام 1982، والدكتوراه الفخرية في الآداب من جامعة المنيا.حصول “صلاح عبد الصبور” على جائزة الدولة التشجيعية عام 1966 كان عن مسرحية “مأساة الحلاج”، لم يكن “العقاد”، وهو -آنذاك- رئيس لجنة الشعر في المجلس الأعلى موافقًا على حصول “صلاح” على لقب شاعر، وأخذ الصراع بين أشكال الشعر شكلًا آخر؛ حينما رفض “العقاد” سفر “عبد الصبور” إلى مهرجان دمشق الشعري ما لم يكتب شعرًا عموديًّا، وأحال ديوانه إلى لجنة النثر؛ ذلك ما دفع “يوسف السباعي” إلى نصيحته بتقديم مسرحية “مأساة الحلاج”؛ لنيل جائزة الدولة في المسرح، وليس الشعر، بينما كان رأي “لويس عوض” أنه يجب على “صلاح” مواجهة قدره وخياراته، والاستمرار في المحاولة لنيل الجائزة في فرع الشعر، وليس المسرح.لكن المثير هو موقف “صلاح عبد الصبور” أثناء رئاسته لهيئة الكتاب من شاعر آخر؛ وهو “محمد عفيفي مطر”، حيث أعلن على الملأ (على جثتي أن أنشر له ديوانًا)، الأمر الذي أرغم “عفيفي مطر” -آنذاك- على نشر أعماله بعيدًا عن مصر، هنا يضرب “صلاح” مثلًا فعليًا لِما ورد في شعره من رؤيته لتداخلات القسوة، والقوة بين الأفراد، وتحولات المفعول به والفاعل.في مديح الكسل وبواكير القراءات يحكي “صلاح” عن طفولته:(كنت طفلاً ثقيل الحركة، لا يغريني اللعب، ولكنني كنت مهتمًا أكثر بأن ألتقط أي ورقة، وأحاول أن أقرأ ما فيها.. ولعل هذا الكسل البدني؛ هو ما جعلني قارئًا).تلك القراءة النهمة التي دفعته لالتهام كتابات “المنفلوطي”، و”جبران خليل جبران” الذي هام به “صلاح” أكثر من غيره، والذي يحكي عن عشقه لشخصياته حين يقول:(بكيت مع سلمى كرامة وعاشقها التعس. وحين أقول “بكيت” لا أتحدث بالمجاز، بل أعني أنني أجهشت بالبكاء في وحدتي، وحملت من همهما ما ناءت به النفس).عام 1949 قرأ “صلاح” ديوان (نار ورماد) لـ”نازك الملائكة”، وأعار انتباهًا حينها للمعركة القائمة بين “نازك”، و”بدر شاكر السياب” حول صاحب الشكل الجديد، ويعبر عن ذلك بمقولته: (ليس الأمر من كتب أولاً، الأمر في داخل هذا الشكل، ماذا وضع به)، ويحضرنا رأيه في تجربة “السياب”، و”نازك” في الثمانينيات في حواره مع “حسن توفيق” حين يقول:(“نازك الملائكة”، وإن كانت قد نسجت على منوال وحيد، إلا أنها استطاعت التعبير عن حساسية الفتاة العربية بحزنها وانكسارها، ومحاولتها الخروج من قوقعتها المفروضة عليها. أما “السياب” فإنه أضاف القصيدة المطولة، كما استطاع المحافظة على الجرس اللغوي الواضح في القصيدة الجديدة، وكان لديه ما يمكن أن نسميه بالطموح إلى احتواء القصيدة الجديدة لعالم كثيف).كان “صلاح” متعدد المصادر، ومنفتحًا بدرجة كبيرة على قراءاته يتعامل مع القصيدة كمزيج لعصارة ثقافته؛ مستخدمًا التراث الديني كما في قصيدة (الخروج) حيث تحضر الهجرة النبوية من مكة إلى المدينة، أو متنقلًا بين التراث الصوفي من خلال استخدام أعلام الصوفية؛ كـ”الحلاج” أو “بشر الحافي”،أو من خلال استخدام الكثير من الألفاظ ذات الصلة الصوفية، واستخدامه للقصص الشعبي كحكاية “الملك خصيب بن عجيب”؛ وهو واحد من شخصيات “ألف ليلة وليلة”، أو لشخصيات من التاريخ الحديث مثل قصيدة (شنق زهران) أحد أبطال حادثة دنشواي.كذلك حضرت الثقافة الغربية بقوة في سبيل التجديد الذي بحث عنه “صلاح”؛ من خلال إعجابه بـ”بودلير” و”إليوت” و”لوركا”، واستفادته منهم في كتابة المسرح الشعري.رؤية “صلاح” حول الدراما الشعرية عبّر عنها في مقال بمجلة “المجلة” عام 1958 يقول فيها:(الشعر الحديث يريد أن يكتب الدراما الشعرية الحقيقية التي تتشخص فيها الأبطال، وتتمايز، ولا تعتمد على المنولوجات الغنائية؛ مثل مسرحيات “شوقي” وخلفه “عزيز أباظة”، والشعر يعلم أن الشكل البنائي المأثور لا يسعفه على تحقيق كل ذلك، لذلك فهو يكسر عنق البلاغة العربية باستبعاد حتمية التفاعيل، واللجوء إلى أبسط صور القيد العروضي؛ وهو التفعيلة الواحدة.ما في ميدان التصور الشعري، فهو يرجع بالتشبيه إلى أصله، ذلك الأصل الذي ورد في أقدم شعر رُوي لنا، حين يقول الشاعر المصري القديم يناجي إلهه “اجعل حبيبي طبقًا من تفاح”).ذلك التصور للدراما الشعرية هو ما حققه بالفعل “صلاح”، حيث ذهب بالمسرح الشعري العربي إلى نضوج وكمال غير مسبوقين، جعل من منتجه المسرحي ما هو أكبر بمراحل من منتجه الشعري، حتى لو كان صاحب التجديد والنزول بالشعر إلى اليومي، والتنازل عن البلاغة العربية.

blog comments powered by Disqus

مقالات مشابهة

العدالة PDF

Capture

الطقس في بغداد

بغداد
21°
28°
السبت
28°
أحد

استبيان

الافتتاحية