Menu
Al-adala
Al-adala

بسم الله الرحمن الرحيم
وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى
صدق الله العلي العظيم

قاربة لاشتغالات الفضاء في روايات إميل حبيبي

قاربة لاشتغالات الفضاء في روايات إميل حبيبي
ادب وثقافة - عبد الجليل لعميري - 0:08 - 10/03/2016 - عدد القراء : 2284

أصبحت الكتابة الروائية محط اهتمام بالغ. ووصلت النظرية النقدية فيها إلى مراحل مهمة وجد متطورة. وكشفت أن النص الروائي غني بالدلالات، وهو أمر يعكس تعدد المناهج والمفاهيم الإجرائية النقدية التي تقارب النص الواحد وتتوصل إلى نتائج متعددة، مما يثري النص الأدبي، ويضمن له صيرورته وسيرورة حضوره التاريخي عبر الزمن.ولكل نص روائي دلالات متعددة وأبعاد خصبة، لا يمكن لمقاربة وحيدة وأحادية أن تلم بها جميعها. فأصبحت الضرورة المنهجية تحتم على المهتم بأن يقصر جهده، في مقاربة أي نص روائي على تيمة محددة، حتى يتسنى له تقديم أفضل وأدق النتائج، وباختيارنا لموضوعة الفضاء في كتابات إميل حبيبي، نسعى إلى مقاربة تيمة محددة والكشف عن دلالاتها الخاصة داخل نسق كتاباته الروائية، مع الوعي بان التيمة الواحدة، وفي أي نص روائي، لا تنفصل عن النسيج العام المشكل للنص، ولا يمكن تناولها بمعزل عن باقي المكونات السردية الأخرى للنص.لذلك ارتأت هذه المقاربة أن تطل، من خلال الفضاء وعبره، على باقي مكونات نص إميل حبيبي من: زمان وشخصيات وأحداث، بالتوقف عند طبيعة هذه العلاقات الكفيلة، وحدها فقط، بالكشف عن الدلالات المتعددة والخصبة للمكان.
*من الفضاء إلى المكان: في المفهوم
تستعمل معظم الدراسات النقدية الحديثة المصطلحين معا، لكن يظل الفضاء أعم وأشمل وأكثر تركيبية من المكان. وقد يرد استعمال أحد المصطلحين بحسب المراجع المستعملة في هذا البحث.والمكان الروائي لا يكون منعزلا عن باقي عناصر السرد، بل يدخل في علاقات متعددة ومتكاملة مع المكونات الحكائية الأخرى للسرد، كالشخصيات والأحداث والرؤيات السردية.وقد استطاعت الشعرية الحديثة أن تجعل من المكان: عنصرا حكائيا بالمعنى الدقيق للكلمة، إذ أصبح الفضاء الروائي مكونا أساسيا في الآلة الحكائية. ورفعت بذلك: اللبس الحاصل في علاقة الفضاء النصي والفضاء المكاني والفضاء الواقعي.ومع ذلك فالمكان في الرواية يتكئ على بعده التخييلي ليقطع صلته، نسبيا، ببعده الفيزيائي ذي المقاييس الإقليدية، وهذا الانتقال من مجال الدراسات الفيزيائية إلى مجال الأدب يجعل مفهوم المكان يجدد دلالاته ويوسع بعده الفيزيقي ليشمل أبعادا رمزية وإيديولوجية تساهم في البناء الروائي كعالم متخيل. ومن هنا لا يوجد الفضاء الروائي، مثل المكونات الأخرى للسرد، إلا من خلال اللغة، فهو بذلك فضاء لفظي بامتياز.والاهتمام بالمكان في الرواية، هو اهتمام بالجانب الحكائي في المكان، ومدى مساهمته في تحقق المظهر التخييلي في العالم الروائي. فبالإضافة إلى كون المكان في الرواية يحتفظ بملامح المكان الذي تجري فيه المغامرة المحكية، فان الاهتمام بدلالاته الروائية ينصب أساسا على مساهمته الفاعلة في تلك المغامرة نفسها، كعنصر سردي فاعل. ومن هنا اكتسب المكان أهميته في قيام أي سرد روائي، فلا حدث بدون مكان وزمان، ومن تم لا سرد بدون مكان، ففي غياب الحدث الروائي المصحوب بجميع إحداثياته الزمانية والمكانية، يستحيل على السرد ان يؤدي رسالته الحكائية. فكل قصة تقتضي الإعلام عن انتمائها إلى أصل زمكاني .وباعتبار المكان في الرواية هو البؤرة الضرورية التي تدعم الحكي وتنهض به في كل عمل تخييلي، فإلى أي حد يمثل المكان في روايات إميل حبيبي هذه البؤرة، وكيف يدعم الحكي فيها وينهض به كعمل تخييلي؟؟؟
التمظهر الحكائي للمكان في روايات إميل حبيبي: يأتي المكان في كتابات إميل حبيبي ليبني الخلفية المادية التي يتجسد أو يتحقق فيها الحدث المركزي: ضياع فلسطين، والذي يتردد ويتكرر بصيغ متعددة في النصوص الثلاثة، ويتلون بالطبيعة الإشكالية التي تعيشها الشخصيات من: “فجلة حتى يعاد وإخطية”، وإذ يشكل المكان بؤرة الحكي، فإن هذا الحكي تقوم به شخصيات تخترق ذلك المكان، وتفعل فيه من موقع انتمائها السلبي أو الايجابي إلى القضية الفلسطينية، وينبني هذا الحكي في تجلياته المتمظهرة نصيا على بعد زمني يتوزع بين: زمن الماضي، تستدعيه الذاكرة وتقوم بترميمه، وزمان حاضر، يعاني من التصدع، فيحتمي، هاربا، بالزمن الأول (زمن الذاكرة). وبهذا تقوم شبكة العلاقات، المولدة للحكي، في النصوص المدروسة، على تقديم الحكي من وجهة نظر (ذاتية وموضوعية، من خارج الأحداث ومن داخلها) لا تستقر الا لتعلن تيهها وتصدعها المتولد عن الارتجاج الدرامي الذي تعيشه ذاكرة الساهرين على الحكي (الراوي والشخصيات) ومأساوية الواقع القائم الذي تؤشر علامات المكان على انسلاخه عن وجه الماضي السعيد، فيأتي المكان متمظهرا في شكلين: الأول: بسيط ومباشر (بحمولة خغرافية فيزيقية) حين يقدم نفسه عبر اللغة، كأسماء للمدن والقرى والشوارع والوديان والطرقات والمساجد.والثاني: مركب، يحمل دلالات تاريخية ورمزية، وهو يتخذ هذا البعد عبر ارتباطه في إطار الحكي بالمكونات البنيوية الأخرى في النص.والمكان الذي تستدعيه الذاكرة، يأتي ليرسم القطب الثاني في إطار ثنائية ضدية مع المكان القائم، فمكان الذاكرة يمتلك أهله حريتهم وتستدعيه الذاكرة ليشهد على المسخ الذي يمارس على الباقين في ظل الاحتلال، وعلى صورته الماضية الجميلة المعرضة للتشويه. لذلك تتجاور الأسماء العربية إلى جانب أسماء التهويد التي تشيد جغرافية الطمس الجديدة، فينشد نسيج اللغة بين قطبين متناقضين: المكان العربي الدارس، والمكان الخاضع للتهويد، ويتسرب الحكي ليؤرخ للقضية، فيترنح حين يسعى إلى ترميم ذاكرة أقصاها الزمن بعيدا حتى لم يعد ينفع فيها الترميم.وينكشف المكان في الروايات الثلاث من خلال تيمات: الرحلة، الذاكرة، والبعد الإيديولوجي.
*الحركة الأولى: الرحلة وانكشاف هوية الأمكنة
يعيد إميل حبيبي في (إخطية) كتابة ما قد كتبه، ولكن بشكل مختلف، ويعلن من جديد، ان تجربته الكتابية الإبداعية الفردية لصيقة بلا انفكاك بالتجربة الجمعية الفلسطينية (6). وبهذا يتأكد أن البنية الذهنية المتحكمة في الروايات الثلاث واحدة، وان تعدد تحققها من رواية إلى اخرى. لذلك فالخيط الرابط بين التجارب الثلاث المتحققة يعلن عن نفسه في كل لحظة نعيشها مع كلمات: (السداسية) و(المتشائل) و(إخطية)، هو الهم المتكأ على انتمائه إلى قضية الأرض والوطن الضائعين. ننتقل بين النصوص الثلاثة فلا نحس بغربة ولا تبدل كبير (اللهم على مستوى التجربة الفنية في الكتابة) فنصادف: لازمة زمن النزوح، وزمن الهزيمة، وزمن العرب، النزوح وحلم العودة، العودة وحرقة الصدمة، هي تجربة تاريخية واحدة، تحققت بثلاثة طرق، فحكت رحلة الشتات وحلم العودة القائم دوما. ولأن القضية الفلسطينية قضية وطن مسلوب وارض معرضة للاستيطان، فان المكان يشكل بؤرة التفكير فيها، وبؤرة الكتابة عنها. وفي الكتابة الروائية، والفلسطينية بالضبط، يبدأ الوطن من البيت: “فالبيت بداية الوطن “كما يقول غسان كنفاني.
سداسية الأيام الستة: من خلال حركة الشخصيات في المكان، تتشكل علامات الرحلة التي تمثل تيمة بنيت حولها العديد من النصوص القصصية (الحكائية) ابتداء من الأوديسة أقدم الملاحم إلى أحدث الروايات  وبهذه الحركة يطرأ التحول في الشخصية. ولكن للرحلة الفلسطينية طبيعتها الخاصة، فهي ارتبطت بتاريخ، أصبح يؤرخ به للحياة الفلسطينية (1948)، سنة النزوح والشتات اللذان فرضا على جزء كبير من الشعب الفلسطيني.ففعل (ينسحبون) وعملية الانسحاب التي ترد في بداية السداسية، يؤشران على التقسيم (1948 مؤشر زمني يحيل على ضياع المكان) وعلى الاحتلال، لأن فعل: “انسحب/ الانسحاب” يتم بعد فعل “احتل/ الاحتلال”. والانسحاب كما الاحتلال فعلان يقومان في المكان وعليه، والمكان هنا هو الوطن الفلسطيني الذي وقع احتلاله وتقسيمه، هذا التقسيم فرق الأهل (فجلة وعائلته وعائلة عمه)، ثم جمع الشمل فوق نفس المكان لكن تحت الاحتلال، المفارقة التي يخلقها وجود المكان على هذه الوضعية هي: لم الشمل كصفة ايجابية متولدة عن فعل سلبي هو الاحتلال، لدرجة تجعل فجلة يرى – عبر سؤاله الاستفهامي: هل حين ينسحبون سأعود كما كنت بدون ابن عم؟ ص:  فالارتباط بالوطن كمكان حميمي، كبيت كبير، عوض بعد ضياعه بالارتباط بالرحلة، رحلة الشتات والتي تمثل الأس ومنها تتفرع باقي الرحلات: النزوح، العودة المؤقتة، حلم العودة (رحلة وهمية)، وحركة الشخوص في كل الأحوال تكشف عن فظاعة ما يعيشه الشعب الفلسطيني من تدمير يهدد هويته التاريخية. ففي لوحة “وأخيرا نور اللوز” يحكي الأستاذ (م) رحلته بعد فتح الجسور، وأكثر ما يسيطر على تفكيره وحواسه هي معالم المكان: (عشرون عاما وأنا أحلم بهذه المنعطفات اللولبية) (ص: 15). وحرقة الفراق الذي طال حتى كاد يطمس كل معالم الذاكرة (نفس الإحساس عاشه العائد إلى حيفا).
الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل: تحضر الرحلة بشكل أكبر، لنجدها تتموقع داخل حركية النص في كل لحظة رغم كثافة اللغة عند إميل، وكثرة استطراداته وتعريجاته الساخرة على التراث، حتى ليصعب القبض على صور الرحلة المعهودة، ولكنها مع ذلك تظل حاضرة في حلتها الجديدة. يصرخ سعيد: (ها أنا أعود إلى أرض الوطن متسللا، ص 35). ليعري بعد ذلك فيما يأتي من صفحات ظروف تهجير “المتسللين” إلى وطنهم، وتكديسهم في “جامع الجزار” والقذف بهم “كالأشباح” إلى ما وراء الخطوط. فينفجر بذلك سؤال رحلة العودة المستسلمة، التي تصادر خلالها الهوية والكرامة وكل المشاعر، ويأتي الفصل العاشر من الكتاب الثاني (ص 35) مشحونا بالعبارات التي تختزل كل مأساة الشعب الفلسطيني ومأساة المكان المصادر. ورحلة الفلسطيني هي رحلة السقوط الذي بدا بالمكان وانتهى بالمكان، انها رحلة سقوط وانهيار الأمكنة والبشر (تذكرنا بمأساة الأندلس).
إخطية: هي رحلة الذات التي تحكي عبر الذاكرة حكايات المكان الذي باشر النزوح بدوره منذ أن فارقه صاحبه (صاحبته)، فاتخذ نزوحه رحلة تزييف الأسماء وطمس الذاكرة العربية. فأصبح الإنسان العربي، المقيم أو الزائر، يعيش زمنا محاصرا، في شرط احتلال الأرض والتاريخ. هذا الفلسطيني الذي كان في مدينة هي مرآة له فانكسرت فأخذ يذكر شكل وجهه الأول . أصبح يعيش في مكان ضاع، لم يعد ملكا له، وانتقل إلى عدو أصبح يفرض قانونه عليه، فيحدد له زمن النوم واليقظة . لذلك فالرحلة في إخطية لها امتداد الذاكرة، ولم تتحقق بشكل ملموس الا في عودة ابي العباس (اول فصل من الدفتر الثاني)، حيث يتم تقديم عودة عبد الكريم كحركة نحو المكان/ الوطن بعد طول غياب: (منذ أن وطئت قدماه ارض مطار اللد (بن غوريون) وهو يشعر بأنه غريب الديار، ولكنه يحس الآن إحساس المتسلل بالخوف من أن يضبطوه في كل لحظة متلبسا بحقيقة مشاعره/ ص 55). وخلال تقديم العودة يتم الكشف عبر وجهة نظر الراوي عن حرقة الشوق إلى الوطن، وحرقة التعلق بالأرض التي يعانيها عبد الكريم جراء عواطفه المصادرة (وهم بان يقبل ارض المطار، ولكنه أحجم، مخافة ان ينتبه رجال الشرطة والمخابرات / ص 56). وعودته هذه لم تكن رحلة مباشرة نحو مكانه المقصود، بل كانت ملتوية، لتعبر بذلك عن تمزقه، فمن تل ابيب (امعانا في التمويه على العدو/ ص 56)، إلى القدس، وأخيرا إلى حيفا عبر نابلس، فكان مثل الطائر الذي يحوم بالقرب من عشه قبل ان يهبط/ ص 56)، كأنه طائر يحوم حول عش سكنت قربه أفعى في غيابه؟هكذا شكلت الرحلة حركة سردية انتظمت حولها الأحداث وحركات الشخصيات وسيرورة الزمن، فبدأت الرحلة في الروايات الثلاث من نقطة زمنية، هي سنة قيام كيان الدولة الصهيونية، سنة النزوح والتهجير الجماعي (1948 النكبة)، وامتدت رتيبة في اتجاه واحد، هو اتجاه المنفى، الى ان حدثت حرب 1967، فأحيت امل العودة المظفرة؟ لكن الهزيمة (النكسة) مسحت آخر أثر للأمل. ثم تولدت العودة من الجانب الآخر/ العدو، ففتحت الجسور وعكست الرحلة وجهتها نحو الوطن المصادر منذ عشرين سنة. وعشرون سنة هذه لازمة زمنية تتكرر باستمرار في النصوص الثلاثة، وكذلك لازمتي النزوح والهزيمة. وبين هذه الرحلة المتصاعدة نحو المنفى، والأخرى المتوجهة صوب الوطن المحتل، حدثت عودات انفرادية كانت رحلات تسلل قوبلت بالمصادرة والطرد في كل لحظة.

blog comments powered by Disqus

مقالات مشابهة

العدالة PDF

Capture

ملحق العدالة

mulhaq-preview

استبيان

الطقس في بغداد

بغداد
22°
36°
Fri
37°
Sat
الافتتاحية