Menu
Al-adala
Al-adala

بسم الله الرحمن الرحيم
وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى
صدق الله العلي العظيم

قميص سماوي.. حكايات الصعاليك على أطراف العاصمة!

قميص سماوي.. حكايات الصعاليك على أطراف العاصمة!
ادب وثقافة - 1:57 - 21/09/2015 - عدد القراء : 946

لطالما كانت “العاصمة” محط أنظار الكتّاب، ينسجون حولها قصصهم ويرصدون من خلالها أحلامهم وآمالهم، يصورون فيها العالم كما يرونه، بطريقة تغدو معها تلك المدن/ العواصم سيدة المدن التي تحكي للعالم الحكايات وتصنع الأبطال والشخصيات وتقسِّم الأدوار والمصائر، وربما استطاع بعض الكتاب أن يخلصوا لقراهم التي خرجوا منها، محاولين أن يعبروا عن مآسي تلك القرى المستضعفة المهزومة طوال الوقت، فبرز الصراع الأكبر بين “المدينة” و”الريف”، بين عالم الحداثة والتحضر وعالم البراءة والبدايات البكر بكل ما يشتمل عليه وما يحويه من مشاكل وصراعات.لكنّ بين تلك المدن الكبرى “العواصم” وبين القرى والأرياف، مدنًا صغيرة أخرى، ربما لم يسلّط عليها الضوء بالقدر الكافي وإن بقيت مؤثرة ومحركة وفاعلة، تلك هي المدن الصغيرة التي يتأرجح حالها بين محاولات اللحاق بركب المدنية وبين الحفاظ على التقاليد والتراث المميز لها!لم يقتصر الصراع بين العواصم والقرى على عالم الورق والكتابة؛ بل يبدو أنه استمر بشكل مختلف في الواقع فعلًا، فبدا ذلك التفريق الحاد بين كاتب من المدينة وكاتب من الريف، بل ظهر ذلك التمييز بشكل أوسع في عالم الأدباء؛ حيث وجدنا مصطلح “أدباء الأقاليم” معبرًا عن هؤلاء الكتّاب الذين يريدون أن يجدوا لهم مكانًا على الساحة الأدبية واعترافًا بمنجزهم الإبداعي بعد أن سحب “أدباء العاصمة” منهم كل الأضواء!لذا؛ لم يكن غريبًا أن تختفي رواية “قميص سماوي”، وهي الرواية الأولى لكاتبها “محمد الجمّال” رغم أنه حاز بها “الجائزة الأولى” في المسابقة المركزية التي تقيمها “الهيئة العامة لقصور الثقافة” في مصر عام 2011، اختفت تلك الرواية رغم جودتها ورغم أنها عمل مبشِّر ويقدم كاتبه بشكل جيد، في الوقت الذي تطفو فيه على السطح في العاصمة روايات وأعمال لأنصاف موهوبين لمجرد أنهم يحسنون الدعاية لأعمالهم وتسويقها، ثم يجدون من يكتب لهم عنها ويدور بين الناس بها!لا يبدو كل ذلك بعيدًا عن الرواية أصلًا؛ ذلك أنها تتخذ من “شبين الكوم” -إحدى مدن محافظة المنوفية شمال القاهرة- مركزًا لأحداثها، وتتخذ من طبقة المثقفين هناك أبطالًا وشخوصًا لها تحكي حكاياتهم من خلال بطلها الرئيس الذي يروي أحداث الرواية ولا نتعرف على اسمه، ولكنه يحيط بخيوط الرواية متنقلًا في الزمان والمكان بين ماضي الشخصيات وحاضرها حتى ينقل لنا تلك الصورة شبه الكاملة لذلك العالم الذي يحمل خصوصيته وتفرده بلا شك!وعلى الرغم من ثراء الرواية بالشخصيات والأحداث؛ إلا أن سيطرة وحضور تلك المدينة والبلدة كان مؤثرًا وطاغيًا للحد الذي يمكن أن يجعلنا نعتبرها رواية “مكان” بالدرجة الأولى، تقرر لهؤلاء البطال حركتهم وتمارس عليهم درجاتٍ من القهر والإذلالّ!“شبين كانت تجمع لي عشائي في ورقة جرنال لحين عودتي وأنا منهك من اللف في شوارعها، أعرف أنني لست موهوبًا في أي شيء، لست طويلًا ولا وسيمًا ولا ذا أهلٍ ولا مال، لا أشارك أبدًا في نقل الأحداث ولا في صنعها، لكنِّي جربت ما لا يخطر بوهم المغامرين، وتعرَّت على يديَّ شريفات وغجريات لا يحلم أحدٌ بالتقرب منهن، فقط عليك الصمت، وانذر لشبين عمرك، وهي التي ستقشِّر اللوز وتصب لك الخمر؛ بل ومن أجلك تقتل..”.يبدأ “الجمّال” روايته من “منتصف الحكاية” تقريبًا، ليكشف للقارئ فيما بعد كيف كانت البداية، ثم كيف ستكون النهاية بعد ذلك، يبدأ من لحظة عودة البطل إلى مدينته “شبين” بعد غربةٍ خمس سنوات في السعودية حيث كان يعمل بـ”واسطة” من خال زوجته الدكتور، يعود إلى “شبين” التي هرب منها بعد أن أصبح عينًا للشرطة على أصدقائه وزملائه ينقل تحركاتهم ويكتب “تقارير” يومية عن نشاطهم، يعود وهو على يقين أن “شبين” تقتص منه مستسلمًا مهزومًا!يحكي عن بداية حياة بطل الرواية من الصفر حينما كان يقف بائعًا في محل للملابس وحتى التحاقه بكلية العلوم، وما بين ذلك من تعرفه على أصدقائه الذين ربط حياته بهم، من “قصر الثقافة” ومن أساتذة المسرح، حيث كان يحلم أن يكون ممثلًا مسرحيًا كبيرًا، ولكنه يفقد حلمه تدريجيًا، حتى يجد نفسه مضطرًا للسفر والاغتراب.“شبين بلدة صغيرة، مغلقة على أفراحها وأتراحها، لا تُشارك في أحداث العالم بقليلٍ ولا كثير، رغم أنها عاصمة المحافظة التي صدّرت من قراها ومدارسها رئيسين لأكبر دولة عربية وإفريقية، وكثيرًا من السياسيين الذين يوصفون بالدهاء، لكنّ ذلك ما لا تعرفه “شبين” عن نفسها ولا يذكر في أحاديثها إلا على سبيل التندر، أمّا الصفة الغالبة على أهلها أنهم مفتونون بعادة السلامة، بذلك لا يمكن أن تدخل شبين في حسابات السياسة إلا إذا تورّطت فيها…”.يلتقط “الجمّال” حدثًا سياسيًا بارزًا يطفو فيه مدينته على السطح، وهو حدث التعديل الدستوري الذي يقرر الرئيس الأسبق “مبارك” أن يضعه عام 2005 من مدينة “شبين الكوم” لكي يمهد لنفسه توريث الحكم لابنه من بعده (بتعديل المادة 78 من الدستور)، يتزامن مع هذا الحدث مأساة ثقافية مروّعة وهي “حريق مسرح بني سويف” التي راح ضحيتها أكثر من 50 فنانًا من فناني المسرح في مصر، ولكن هذه الأحداث رغم أهميتها وتأثيرها لا تأتي إلا في خلفية الحديث عن حياة هؤلاء “الصعاليك” التي يقدمها “الجمّال” بشفافية وحرص على رصد كل التفاصيل، حتى ليشعر القارئ أنه غدا واحدًا منهم.هؤلاء الصعاليك على اختلاف مستوياتهم وثقافتهم يمثلون فئات المجتمع المصري، سواء “عادل المصري” مطرب الأفراح النصّاب وزوجته الجميلة “غادة السيسي” التي فتنت أهل المدينة كلها، أو حتى شخصيات مثل “سليم الطبّال” أو “محمد الحفني”  وغيرهم ممن ارتبط البطل بهم وشاركوا ولو بشكل غير مباشر في تحديد مصيره وتغيير مسار حياته، وتبرز شخصية الضابط “فهد الكاشف” ضابط أمن الدولة الذي استطاع أن يجنده لمصلحته، والذي صوّره الكاتب بدقة، ورسم فيه ذلك الضابط الذكي الذي يبدو مثقفًا ويكتب القصص ويستغل سلطته وأسلوبه في تجنيد البسطاء ليكونوا عيونه داخل أروقة المثقفين البعيدة عنه، ولكن هل يتمكن البطل من الإفلات من قبضته في النهاية؟!هكذا دار “محمد الجمّال” بين شخصيات “شبين الكوم” وعالمها، وأدار القارئ معه، فاستطاع أن يرسم صورةً حيةً لحياة الناس هناك، صورة بانورامية نقلت مع تفاصيل الحياة أحلام الناس وآمالهم وآلامهم، بعيدًا عن المباشرة الفجة أو قصص الحب المستهلكة، ولكن بصدق فني عالٍ يؤكد أننا أمام موهبة تستحق الاحتفاء وننتظر منها الكثير.

blog comments powered by Disqus

مقالات مشابهة

العدالة PDF

Capture

الطقس في بغداد

بغداد
22°
26°
الجمعة
27°
السبت

استبيان

الافتتاحية