Menu
Al-adala
Al-adala

بسم الله الرحمن الرحيم
وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى
صدق الله العلي العظيم

نيويورك تستمع إلى هسهسة الأوراق الميتة

نيويورك تستمع إلى هسهسة الأوراق الميتة
ادب وثقافة - 0:22 - 09/03/2016 - عدد القراء : 2296

واسيني الأعرج في «سوناتا لأشباح القدس»:

طوال رحلته الروائية، والتي امتدت لأكثر من عشرين عملاً، ارتكز الروائي والناقد الأكاديمي الجزائري واسيني الأعرج على المزج بين طرفي المتعة والإقناع، كما أقامت نصوصه بعدها الدرامية على شرط وجود المتلقي الذي تحاججه، وتطالبه باستمرار عملية الحوار، وحثه على الاستكمال. شرطية وجود القارئ الذي يستطيع المشاركة في مغامرة النص وخطابه، مع الاحتياط أن كل نص يفترض قارئه كشرط حتمي لقدرته التواصلية الملموسة الخاصة ولقوته الدلالية أيضاً، جعل بعض النقاد يصفون كتابات الأعرج بالذهنية، والإيديولوجية، وغيرها من الصفات التي تنتمي إلى حقل الإقناع أكثر من انتمائها إلى حقول ومسارات الإبداع، معتبرين ذلك «نقصاً» أو «عيباً» أدبياً، متغافلين عن القيمة الحجاجية للأدب، وبخاصة السرد، ومتناولين نصوص الأعرج بطرائق نقدية تقليدية ترتكز على مقولات أو إجراءات باتت لا تجدي كثيراً في قراءة النصوص الحديثة.في رأينا، استقر تقريباً، الحوار مع العملية الإبداعية بوجه عام من خلال ثلاثة خطابات يحملها بين جملة وتراكيبه ورؤيته، هذه الزوايا الثلاث تخرج من ثلاثية المبدع والنص والمتلقي؛ فالمبدع ذلك الحائر بين الظهور والخفاء، بين الحضور والغياب، السرمدي والساكن خلف حروف مطبوعة، ورؤية كامنة وشبه مستقر، والنص القادر على حمل تلك الهموم بجانب إشكالية الصياغة وطرائف التعبير وأنساق الكتابة، كل ذلك يصب عند ملتقى مستعد ومتحفر ومهيأ للحوار، الاشتباك، الاتفاق، الاختلاف، القبول والرفض.وفي سبيل حوارنا مع خطاب الأعرج الروائي، فإننا نتخير رواية «سوناتا لأشباح القدس» الصادرة عن دار الآداب 2009، وتدور أحداثها حول «مي» الفلسطينية ذات الأصول الأندلسية، والتي تضطر إلى الهجرة من القدس إلى أمريكا، وهي في الثامنة من عمرها سنة 1948، عام النكبة العربية، وتصبح فنانة تشكيلية مرموقة، وتتزوج وتنجب طفلًا يدعو «يوبا» وهو اسم أمازيغي أطلق على عدد من ملوك الأمازيغ ومنهم يوبا الثاني الذي أحب الثقافة والفنون، وتصاب في نهاية رحلتها بالسرطان، وتدخل مستشفى نيويورك المركزي عام 1999، وتقرر على فراش المرض أمرين، الأول كتابة مذكراتها والآخر حرق جثتها ودفن الرماد بعد وقاتها.واستخدام المؤلف لاسم «يوبا» ليس اعتباطياً، بل البحث في تأويله يشير إلى التقاطع بين حياة «مي» والملك يوبا الثاني، والذي تربى في كنف قيصر روما بعد أن أسره الأخير وهزم والده وقتله، وكان يوبا مثقفاً ومخلصاً لروما، ومحباً لوطنه الأصل بالوقت نفسه، ولم يتخل عنه حتى تولى العرش على «موريتانيا» وكانت تشمل شمال إفريقيا الغربي، وتنقل بين روما وموطنه الأول، وتزوج من سيلينا ابنة كليوباترا، وأنجب ابناً، ليعاني التشتت في الهوية والانتماء، وكذلك الوفاء للوطن البديل رغم كونه «العدو».في رأينا، لم تكن نيويورك بعيدة عن «مي»، والتي تدور حياتها حول «الحياة/ الكتابة، والموت/ الحرق»، كذلك كانت المدينة الأمريكية في الرواية، «لذيذة، تغتسل بالمطر، وتلبس الضوء والألوان والضباب»، وهي أيضاً المدينة التي تعبر عنها مي بأغلى لوحاتها «هسهسة الأوراق الميتة». وتحاول مي أن تتعايش مع الصورة المتناقضة، ففي الوقت الذي تبدو فيه نيويورك «مدينة كبيرة لا تضيق، كل ناسها جايين من برا وما فيها حدا يزاود على الثاني، مدينة كبيرة وطيبة وناسها كرماء، استقبلت أناساً كثيرين عبر تاريخها الحديث»، تظل منفى وعلامة تذكر الشخوص بالتشرد والتهجير، بعد أن لم يعد بمقدورهم البقاء في بلادهم، «جزء منها أخذ منا بالقوة والجزء الآخر سيؤخذ بالسياسة والتقسيمات».كانت مي أوصت أن تُحرَق وأن يُذَر رمادها فوق نهر الأردن وفي حارات القدس، وأن تدفن عظامها في أمريكا، ويتردد ابنها يومياً لزيارة مقبرة عظامها، و«منذ أن ذهبت مي لم يتخلف يوماً واحداً عن زيارتها كل صباح ثلاثاء من بداية كل شهر، نزولًا عند رغبتها، يبكر إليها قبل الذهاب إلى عمله، يمر على بائع الورد المفضل لديها يشتري باقة ثم ينزل نحو قبرها». لتحل هنا صورة نيويورك في رمزية المقبرة، إذ تنفتح القدس ونهر الأردن مكاناً يذر رماد أبنائه، ويمنحنا «جزءاً جميلاً في الهواء نستقبل النسائم التي تأتي من وراء البحر الميت»، ويبقى المنفى مكاناً مغلقاً وضيقاً، وتفقد نيويورك الصاخبة رحابتها ويتحول صمتها مع الزمن، «إلى لغة للفقد على الرغم من الخشخشات التي تخلقها الرياح وهواء البحر وتداخل النباتات والجذوع في عمق بعضها البعض».وتتقاطع «سوناتا» واسيني الأعرج مع بقية أعماله في انفتاحها على المدينة الغربية «نيويورك» مع حضور المدنية الشرقية، ولو بالصورة الشبحية، وهي سمة تتكرر كثيراً في رواياته، فنيويورك تقابلها القدس، والجزائر تقابلها أمستردام في «شرفات بحر الشمال»، وباريس في «ذاكرة الماء» و«كتاب الأمير»، ليحدث الجدل بين الذات والآخر، وإن تمثل الآخر هنا في صورة المنفى، ويطارد فيه الموت «مي»، التي ترحل خلال تواجدها في المستشفى المركزي فجر الخميس الأول من يناير عام 2000، ولا يمكن أن يمر التاريخ دون التوقف على دلالته الرمزية، ففي بداية عصر جديد ترحل المرأة التي حملت وطنها في «جعبة» وأجبرتها السياسات الإمبريالية على الشتات. جدير بالإشارة، أن سياقات تداخل الأمكنة والأزمنة في روايات عدة للأعرج، لا تشترط معايير البنية الروائية التقليدية، إذ تقيم النصوص علاقة انقطاع مع ما رسخته الرواية العربية التقليدية قبل عام 1967، أو قبل عقد السبعينات من القرن العشرين، الأمر الذي يجعل من مشكلة التجنيس والتصنيف الأدبي تبرز بصورة «شبه» مستمرة عند التفاعل مع خطابات الأعرج، وهي مسألة باتت هاجساً ملازماً للنقاد «المغرمين» بالتصنيف والتحقيب، وهي عملية معقدة، ومن ثم سنطرح عملية التصنيف جانباً، بل علينا أن نسقط أيضاً الحدود بين الروايات، ونعتبرها خطاباً واحداً مفتوحاً. وبشكل عام تبرز هنا إشكاليات تتعلق بطبيعة بناء الخطاب ومدى إمكانات وصف وتصنيفه، ضمن حدود الجنس والنوع الأدبي، بيد أننا نفضل التعامل مع خطاب الأعرج باعتباره خطاباً روائياً مفتوحاً، يسعى للاكتمال دائماً، ويخرج عن الشروط والقواعد التي تأصلت في البنية الروائية العربية التقليدية، مستفيداً في «سوناتا لأشباح القدس» من مناقشة قضايا المكان السردي وإشكالياته، مستثمراً في ذلك الفنون الجميلة والرسم والموسيقى والرقص، كأدوات تعبير داخل نطاق السرد. ومع اشتداد المرض في الغربة، يذهب يقين الشباب ويحل شك الشيخوخة، فتبدأ تساؤلات مي عن الذات، وعن الوطن، الذي ترتسم ملامحه من خلال المرور على نقيضه «المنفى» والأخير له «رائحة تشبه رماد الحرائق»، وتستحيل أسئلة الولادة والتهجير والتأرجح بين الوجود واللاوجود، وهي أسئلة الفلسطيني في القرن العشرين، إلى أشباح تطارد مي التي توقن أن «لكل شخص أشباحه التي يظنّها ماتت منذ زمن بعيد، لكنه يفاجأ بها تشرب معه قهوته الأخيرة أو تتنفس هواء البحر في شرفته نفسها، عندما يصبح قاب قوسين أو أدنى من الموت».
ويصبح القرار الثاني لمي هو «الكتابة»، ملاذاً وسبيلاً لمقاومة الموت، وبوصفها أداة لإثبات الذات، فهي حقاً «شيء خطر، أكثر من مجرد كلمات مرصوصة في خط مستقيم ككتيبة عسكرية منضبطة، تخبئ هزائمها في صرامتها المبالغة. هي القدرة على كسر عنق الموت، والضحك من سطوته، وجبروته الزائف ولو للحظة، قبل أن يقوم من خيبته أشد حنقاً وإصراراً على افتراس ضحيته»، والكتابة قوية حد الإبهار، كما حدث مع «يوبا» الذي يقرأ شاهد قبر جديته رغم مرور السنوات، يتساءل «كيف استمرت هذه الكتابة الهشة بالطباشير كل هذا الزمن؟» ليعرف أن حارس المقبرة يعيد كتابة الشاهد، «كلما سقطت سيول المطر أو هبت رياح عاتية وانمحت العلامات عبر القبور القديمة» كأنه يتمسك بعودة الراحلين أو على الأقل بقائهم.

blog comments powered by Disqus

مقالات مشابهة

العدالة PDF

Capture

ملحق العدالة

mulhaq-preview

استبيان

الطقس في بغداد

بغداد
37°
32°
Sun
32°
Mon
الافتتاحية