Menu
Al-adala
Al-adala

بسم الله الرحمن الرحيم
وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى
صدق الله العلي العظيم

التذكر والنسيان في ديوان «بين ماءين» للمغربي مزوار الإدريسي

التذكر والنسيان في ديوان «بين ماءين» للمغربي مزوار الإدريسي
ادب وثقافة - 0:15 - 06/09/2015 - عدد القراء : 850

التذكر والنسيان فعلٌ شعري، لا تقابلَ بين طرفيه. ومهما بدتِ المفارقاتُ، أثناء تشكُّله، فلا يستغني أحدهما عن الآخر، ولا يكون إلاَّ به. فالقصيدة لا تكرر صوتًا، أو تجربةً باستحضارهما، بل بالوقوف في منطقة التلاشي والفقد. ولهذه المقدمة أوضاعٌ أخرى، ولكني أختار وضعيةَ الموجهات لقراءة ديوان «بين ماءين»، مستحضراً مسافة التأويل بينها، على أساس مقام الأزمنة.
موجه الإقامة: لا تعلنُ عتبة الديوان «بين ماءين» عن إقامةٍ، بقدر ما تستدعي مصادفةَ الوجود في مكانٍ لا يستطيع فيه الإنسان الاستقرار، والإحساس بانتمائه إليه. فالبينيَّةُ إيذانٌ بالمؤقت. ضيافةٌ غير مأمونة، واستعدادٌ دائمٌ ويقظٌ للرحيل. وفي منطقة الفقد هذه، يستدعي الشاعرُ مُحاورَهُ، بل ويدعوهُ ضيفاً. بين الوعي بالعبور، وتشكل مقام الضيافة، تَذكُّرٌ لمقام الشاعر، ونسيانٌ للخطر. هي، إذن، أزمنةٌ تأتي بآثارها إلى ومضة الإقامة: أثر الغدر، وأثر الدَّين، وأثر الارتياب.«بين ماءين/ أرضٌ/ يشتعلُ الموتُ/ في نخلها/ ويلاحقها الليلُ/ حتى يورطها/ في دم الذئب/ أرضٌ تجيء إلى الأرض/ مثقلةً بالدَّين./ هي أرضٌ لنا،/ زرقةٌ رخوةٌ ../ وصدى/ مترعٌ بأنين المنافي»تلك آثار إقاماتٍ سابقة، ما زالت تلاحقُ القائمَ على الضيافة، فيما يُقدم أثر «الآن» إلى المدعو الضيف تذكُّراً ثانياً بين مرايا تُنسيهٍ وجهَه: «يرانا نراهُ أراهُ يراني». تتحولُ الإقامةُ، في المرآة، إلى مقام «التَّرك»، ومن مثنوية الرؤية إلى أحاديتها. لا تعدُّدَ فيها:»يرانا نراهُ» فعلٌ واحدٌ للحال، مثله مثل «أراهُ يراني». وفي مقام التَّرك تعدُّديةٌ تتمثلُ في نقل الحاليةِ من الأحادية إلى الجمع: «يراني نذوبُ بكأسٍ تهدهدها ألفُ عين». نسيانٌ لاستعارة «كما لو رآني»، وهي تستعيدُ زمنها في منابع العيون ترقُّباً لنشأة الكأس أو طفولتها. تتأطر هذه الاستعارة ضمن سؤال الوجود، من حيث قدرةُ الرائي على المعرفة الكلية بأسرار الأمكنة، ونوايا المقيمين فيها؛ ومقابل هذه الكلية، يواجه المرئيُّ هذه المعرفةَ بصيغة «كما لو» لمضاعفةِ احتمال النسيان.لا يتسَيَّدُ الترقبُ، في هذا المقام، ولا ينتصرُ إلا للأثر المنسي: «وأنا بين ماءين تغفو يدايَ، كأني سليلُ الخسارات». إنه تذكُّرُ نصف الاستعارة «كما لو»؛ وبها يتأصلُ محو اليقين في الكتابةِ مملكةِ الحرف، فتتخذُ صيغةُ «كما لو» صورةَ الحقيقة الشعرية، حيث الرؤيةُ عرضٌ، والإقامةُ عرضٌ، والتعيينُ عرض. فيها لغتان: لغةُ الصمت، ولغةُ تذكرِ ونسيان الصمت. «كلما خاتلتْني أغني لها: ضيَّعني الشعر بين لسانين». والالتذاذُ بالضياع، من خلال «كلما»، تكريرٌ لنسيان أثر الضياع؛ وهنا تجد استعارة «كما لو» تذكُّرَها: «كما لو لم أضعْ من قبلُ»، «كما لو أنني مستعدٌّ للضياع».. موجه المصاحبة: يختارُ الديوانُ مصاحبةً شعريةً، تحتاطُ من تورطها في القول والكتابة. وباحتراز شديد، تسمي نفسَها منذ البداية نداءً: «أيها المجهولُ أهلاً»؛ وكأنه شرط اتفاق مبدئي، يتخذُ معنى أدب الضيافة. وبهذا الموجه يتابعُ الشاعر لغةَ الصمت المنسية، دون أن يورط ذاته في البحث، إذ يوكلُ إلى المجهول/الضيف اقتفاءَها: «خُذْ أساطيرَ الليالي وادْنُ من صمتي، أنا نافذةُ الذكرى». وعندما يصبح الشاعر وسيطاً بين التذكر والنسيان، يفقد اللسانين، ويضعُ جسدهُ وسريرتهُ للرائي؛ ويعني ذلك أن تذكُّرَهُ لضياعه لا يتحقق إلا بفقدانه اللغة. ففي لحظة الدنو والاقتراب، ينسى المجهولُ كلامهُ، استعداداً لاستضافة ثانية من باب آداب الجلوس والإنصات، فلا يتكلم في هذا المقام غيرُ الجسد رقصاً بين كأسين؛ فيما تتحول دهشة المجهول إلى معلوم الكلمات، فلا هو ذاتُه، ولا هو غيرُه. ولكن اليدَ التي تكتب بحبر الفجاءة والصمت، تنسى لمن تكتب، ولا تتذكرُ سوى جسد القصيدة عارياً: «لكن نافذةَ الليل تفضحُ عُريَ القصيدة بين البياض وبيني».وهذه استعارةٌ أخرى تُديمُ النسيانَ، وتتركُ الفُجاءَةَ ظلاًّ للمجهول. ولكنها تأتي، في هذه الحال، من نسيان الحبر مستَبْدَلاً بالبياض. وكل البينيَّة التي يلقيها الديوانُ ويُنطقها، هي ضفافٌ للإبحار، تُجاورُ المصاحبينَ، ولكلٍّ زادُهُ في هذا العبور: مع رامبو، وهولدرلين، وألكسندري، ضفافٌ شعريةٌ لا تقيم. وكلما أفرد الشاعرُ لها خيوط البقاء، تبدَّدَ المقام، وأضحى التوجسُ منعقدَ التورط في الغواية. يعلنها الشاعر الإسباني:»لستُ في البال، ولستُ منسيّاً أيها الأصدقاء. انسوْني، فكأسي تنشدُ ضوءاً في الفضاء تحت سماء دائمهْ». وأمره أمران في الديوان، بعدما أمرَه الشاعرُ بالمرور بين الحروف:»مرَّ بين الحروف/ مرَّ قافيةً/ تتمطى إلى آخر البيت/ مشرعةً لاحتمال المحال». لكل الشعراء احتمالُهم ومحالُهم، وذلك ما يُسِرُّهُ ديوان «بين ماءين»، بنوع من صداقة الشعراء في توجسهم الجميل. وليس فقداً أن تكسر الغوايةُ الشاعرَ، وهو يجهدُ ويجهرُ بالرفض، بحثاً عن المرافئ، وعودةً إلى ذاكرة الأرض من خلل الكتابة. فإلى جوار كلمة ألكسندري «ها أنا الآن أتكتبكُم»، تسرُّ كلمة الشاعر لأرضها أن «يليقُ بسيدتي الأرض شجوُ الرياح /… تجتبيها الطريقُ/ إذا كسرتني الغوايةُ/ بين كؤوس تتوجني/ وترابٍ يُسرُّ له الماءُ/ أني الحريق». فحينما تتصدر المصاحبةُ مقام التذكر، يبني الشاعر إلى جانبها سياجاً يقيها من الانفلات، وإن كان سياجاً من صدى، أو من عزاء، أو رثاء. ففي قصيدة «الشعراء» سياجٌ يجعل مصاحبة الخارج منسيَّةً: الشعراء غجرٌ، لا يصادقهم من يملك القواعد والمعايير، لا يتواصل معهم من يملك الحِجاج، لا يفهمهم من يملك برهان الأشياء، لا عبارة لهم، ولا قصيدة، ولا إشارة. مصاحبتهم رهنٌ بما لا يُعرفُ ويُعلم. بالمجهول يقيمون ويعبرون. فمصادقتهم تصديقٌ، ولذلك جاءت القصيدة المواليةُ «أصدقك أيها الشاعر» موسومةً بتذكر الشاعر الراحل «منير بولعيش»، وهو يرحل بقصيدة لم تنسَ الخارج، ولم تُنبتْ غيرَ الصوت الشفيف، في اتجاه «رصيف يصدق نافورةً نسيَتْ شاعراً يحرسُ الذكريات».الجسد متكلمٌ في القصيدة، أكان مع رامبو في لياليه الجحيمية، أم مع هولدرلين في ندائه لمباركة الرائي، أم مع ألكسندري في سيوفه التي تشبه الشفاه.  موجه اليقظة: أو وضعية الانتباه إلى حال الكتابة والحلم، وغالباً ما تأتي في صورٍ متناثرة، يسمها الاستفهام عن الربط بين ما وقع وما يمكن أن يقع، وتؤطرها قصيدة «خمس لوحات بلا ألوان». لا نقف عند الخطاب وبنائه في هذه الوضعية، بل نحاور مختبر الحواس ومؤشراته العامة. وأول استفهام يتصدر النص. «من غلق الأبواب/ واهتبَلَ الغيابَ/ أنا أم الذكرى؟»ـ ينم عن توجس له سمة الديمومة، حيث تصادرُ اليقظةُ كل الحواس، وتزجُّ بها في منطقة مسؤولية الفعل. ولهذا جاءت اللوحاتُ بدون ألوان، فارتمى البصرُ في النسيان، ولم يبقَ غيرُ الداخل والخارج/ الأنا والذكرى. طاقتان تتبادلان الجذبَ كي تجرَّ إحداهما الأخرى إليها لتستوعبها. فالذات تسعى إلى الانتصار على الذاكرة، مثلما ينتصر الداخل على الخارج أو العكس. والمنطقة البينيةُ هي «الباب»، باعتبارها غيابًا. هي عتبةٌ أو برزخٌ يؤدي إلى المحتمل والممكن؛ فإما تجنُّبُهُ ونسيانه، وهنا نعود إلى مقام الترك، فتؤخذُ الاستعارةُ كلها كاملةً، وإما بالاندفاع نحوه وكشفه، فنكون في نصف الاستعارة «كما لو» ليبقى المحتملُ رديف التذكر. وفي المقطع الثاني من اللوحة: «من استحلى ستار الصمت واستلقى شبيهي أم أنا»، يقوم الستارُ مانعاً بين لسانين: لسان الشبيه، ولسان الشاعر. والتعرف إلى الشبيه فعلٌ نسيَ النظَرَ وتذكَّرَ الكلامَ. إن الملفوظَ آتٍ من طرف ثالث. قلنا آنفاً إن هناك لغة الصمت، ولغة تذكر ونسيان الصمت؛ فقد أغنى الصمت عن الطرفين، واستغنى عنهما. ولم يُلغِ التيقظُ ذاكرَتَهُ التي لا يُعرَفُ زمنُها، حيث تنتفي كل الصلات بالذات، ويتعمق سؤال الهوية «أأنا أنا؟» شكّاً يضاعفُ الانتماءَ والإقامةَ إلى حدود النسيان الأول، أي النسيان الوجودي «أأقيمُ في ذاتي وفي أخرى؟». لم تعُدِ الذاتُ مقيمةً «بين ماءين»؛ والعودةُ إلى الرغبة في معرفة الإقامة في الذات، مسلكٌ للدهشة الأولى، كأنما عودٌ من الموت. أسئلةٌ مأهولةٌ بمعارفَ لا تدرَكُ بجواب نعم أو لا؛ وما يثيره الشاعر، ينأى حقاً عن كل صيغ التصديق، بل يساهم في تخريب الصحة والخطأ، الحقيقة والمجاز، السؤال والجواب.القصيدة دهشة لتعدد الأسئلة ونسيانها، وتذكر نقيضها المفارق: «لا صمتَ يعلو جبهتي لا دهشة .. أعرفُ أن مملكتي الحروفُ». ومن المعلوم أن الحرف تحريف، نمارس به حقنا في نسيان «بين ماءين» وتذكر «بين نارين». ربما ندرك ما خاطرت من أجله قصيدة الشاعر مزوار الإدريسي في عبورها وأنسها بالصداقات الشعرية الكبرى.

blog comments powered by Disqus

مقالات مشابهة

العدالة PDF

Capture

الطقس في بغداد

بغداد
22°
26°
الجمعة
27°
السبت

استبيان

الافتتاحية