Menu
Al-adala
Al-adala

بسم الله الرحمن الرحيم
وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى
صدق الله العلي العظيم

ما الشعر؟ فن لا وجود له: في جمالية الخطـأ

ما الشعر؟ فن لا وجود له: في جمالية الخطـأ
ادب وثقافة - 14:56 - 24/05/2015 - عدد القراء : 1035

في شعرنا قديمه وحديثه، نصوص وأبيات وصور غير قليلة [استعارات] عدّت عند كثير من الغريب أو المحال اللاّمتصوّر. ولئن تحيّفها من تحيّف؛ فقد كانوا بهذا الصنيع لا يسلبون الشّاعر حقّ الاختلاف فحسب، وإنّما يطمسون مواقع الغرابة في نصّه، وما هو «إخبار غير مألوف»، يمكن إدراكه والاستدلال عليه في حيّز الخطاب نفسه، بل هي في تقديرنا «سبيل ٌخطأٌ» يسلكه الشّاعر عامدا أو غير عامد، وإن كنّا إلى القول بأنّه يفعل ذلك عمدا وعن قصد، أميل.قد تكون الصّورة ثمرة مصادفة واتّفاق غير مقصودين. وقد لا تكون كذلك ومن المفيد أن نقرأها في سياق شعريّتها، حتّى لا يطوّحنّ بنا الظنّ بعيدا، فنحملها وهي المحكومة بتباعد منطقيّ خاصّ على نوع من التّباعد الاعتباطيّ. وشتّان بين صورة تتمثّل أعلى درجة من الاعتباطيّة أو المصادفة التي تتعارض والقصد أو النيّة، وتضع طريقة جديدة في تدبّر العلاقات بين اللّغة والذّات، وبين اللّغة والمجتمع، كما هو الشّأن في السّرياليّة، وصورة متصنّعة يتسمّى فيها الشّيء باسم شيء آخر، أو هو يصبح شيئا لغويّا، وتتحوّل الكلمة في العالم وعنه، إلى خيال تتراسل فيه وبه الأشياء والكائنات؛ وما يمكن أن يتيحه ذلك للقارئ من تبصّر في العلاقة بين الشّيء وتسميته، وبعيد تأمّل واستقصاء نظر، سواء استرسل إلى الصّورة واستأنس، وعدّها موافقة أو مناسبة استعاريّة أو استهجنها وعدّها من فظّ الكلام أو من الخشونة الاستعاريّة، بل إنّ هذه الخشونة أو ما يسمّى بالتّنافر المنطقي في الصّورة، ليس إلاّ مظهرا خادعا، ذلك أنّ مناط الأمر فيها تقنين استعاريّ، وطريقة خاصّة في تحويلها إلى نظام منطقيّ لا سند له إلاّ من داخل الخطاب.الصّورة اللامألوفة أو المسومة بالغربة، خطأ مقصود، وحيد عن صواب، وعدول عن طريقة. وليس بالمستغرب أن يتصدّى للشّعراء قديما وحديثا، نقّاد يصدرون عن رؤية دينيّة مثاليّة، ليست اللّغة فيها سوى تمثّل لحقيقة موجودة سلفا أو لمعنى قائم في العالم، وشهادة لنظام ما للكون، مرتّب ملموس.والإنسان في تصوّر هؤلاء القرّاء، إنّما هو موجود في نظام خارج نطاق سيطرته، ولكن ليس خارج نطاق قدرته على تنظيمه، ما نسج على منوال والتزم وجها معروفا، وتوخّى طريقة معلومة. فإذا كانوا يُخَطّئون الشعراء؛ فلأنّ الخطأ تبعة ابتداع لا كابح لغلوائه ولا رادّ، من جهة، ولأنّ الشعر في تقديرهم؛ جنس واحد أو ماهية واحدة ا ينبغي أن تضمّ كلّ الأنواع المتعدّدة من القصائد، من جهة أخرى. وحدّ الشّعر عند هؤلاء هو الذي يصنع القصيدة. والشّعر بهذا المفهوم فنّ لا وجود له. فثمّة أنواع من الشّعر هي أخصّ من الجنس على قدر ما هي أعمّ. والمحدث التمّامي مثلا [نسبة إلى أبي تمّام] لا يمكن أن يؤخذ بالحسبان إلاّ إذا صرفنا النّظر عن الجنس إلى النّوع. وما كان هذا ليجول بخلد خصومه، وليس لنا أن نتوقّع منهم أن يرتضوا خروج الطائي على طّريقة العرب؛ لأنّه خروج على الجنس نفسه أو على ما يمكن أن نسمّيه «الشّعر الوسط».المقصود بالخطأ عند طائفة من القرّاء؛ إنّما هي الإحالة وفساد المعنى. وهم ينسبون ذلك إلى الإفراط والإسراف في المبالغة وتجاوز المقدار في اللّفظ أو في النّظم أو في الإعراب أو في التّرتيب والتّقسيم. وقد لا يخفى من ألفاظهم هذه، أنّ هناك مقايسة ينبغي أن تجري الصّورة بمقتضاها حتّى تكون مساوية للمعنى بلا زيادة أو نقصان، أو يكون مقدارها من مقداره. فذاك هو مبلغ الصّورة عندهم ومنتهاها: أن تكون سواءً أي وسطا بين حدّين، فلا إفراط مسرف ولا تفريط مقصّر. وعلى أساس من هذه التّسوية أوْ من لزوم المقدار؛ يتحقّق الإمتاع والإفادة. وبسبب من ذلك ترخّصنا في نعت أحسن الشّعر عندهم بـ»الوسط»؛ فإذا تجاوز الشّاعر هذه الوسطيّة، أو تعدّاها إلى طرفها الأقصى، أخطأ وأحال وأتى بغير الممكن. والصورة الإحاليّة ليست الصّورة التي يستعصي على المتلقّي تصوّرها فحسب، وإنّما هي الخطأ عينه وما يقتضي الفساد من كلّ وجه فـ»ليس يطالب البشر بما ليس في طبع البشر، ولا يلتمس إلاّ ما كان في طبيعة ولد آدم « وطبيعته أو خلقته بعبارة أسلافنا (فطرته) إنّما كانت «مبنيّة على السّهو ممزوجة بالنّسيان» فإذا كان النّقصان سمة البشريّ فليس يطالب الشّعر إلاّ بما في طبع البشر. وعليه فإنّ الصّورة السّائغة عندهم هي التي تمثّل شيئا حقيقيّا، والتّماثل فيها ليس إلاّ علاقة مخفيّة في تلافيف الأشياء وثناياها ينبغي اكتشافها. وكأنّ الظّاهر صدفة لا بدّ من كسرها؛ الأمر الذي ينهض به الشّرح أو التّفسير أو التّأويل ويتتبّعه حتّى يتمّه ويستوفيه، لأنّ الصّورة ـ مهما يغرب فيها الشّاعر ـ إنّما تقول بتشبيهاتها نظاما مرتّبا سلفا معيّنا مقدّما. وغرابتها لا تعني عدم امتثالها لشروط التمثّل المفروضة من خارج أو من عل، أي التمثّل المنشدّ إلى تصوّر دينيّ عن عالم أوّل مشحون بمعنى ثابت لا يتغيّر. ومن ثمّ فإنّ الخطأ في الصّورة ليس إلاّ خطأ في التمثّل أو الخيال أو في التخيّل، أو في هذه جميعها. لكن إذا كان هؤلاء قد رصدوها من مواقع مختلفة، وكانت لهم منها مواقف شتّى، فإنّه يظلّ بالإمكان أن ننفذ إليها من كوّة أخرى في شبكة القراءة، غير التي نفذوا منها، من دون أن نشيح عن قراءاتهم أو نبخسها حقّها علينا. فقد لفتوا نظرنا إلى ما سميناه «شعريّة الخطأ» أو «جماليّة الخطأ»، وأحالونا من دون قصد منهم، على أنّ مأتى الغرابة في الصّورة هو من ترك سنّة التزمها شعراء الطريقة [طريقة العرب]. وأتاحوا لنا بذلك أن نحدّ الخطأ وقد جرّدناه من كلّ حكم معياريّ أو قيميّ على أنّه مشيجٌ لا غنى عنه في بناء الصّورة، من حيث هي مخالفة بطبعها وانتهاك وخرق وتجاوز، وليست احتذاء أو عملا على مثال. فشتّان بين الصّورة في ذاتها قارّة في خطابها، والطّريقة التي يحتذيها الشّاعر في الوصف والتّصوير. وقد يصعب، ما لم نميّز بينهما، أن ننفذ إلى معنى ونستحوذ على دلالة. وهل تستتبّ القراءة إذا اقتصرت على الصّورة في ذاتها أي من دون حوافّها؟ وإذا قبل القارئ أن ينهج هذا المنهج، أفلا يجرّه إلى عالم من الغرابة، ويزجّ به في متاهة من الصّور التي ليست ممّا يقدر الخاطر أن ينالها بسرعة ولا هي ممّا يقع في الوهم من مجرّد النّظر؟ إنّما يدير الخطاب أشكالا شتّى من التّورية والإيهام والمشاكلة والتّجريد والتّلميح والإشارة. وهي أشكال يعبر منها المتكلّم إلى دليل لغويّ آخر، إمّا لاجتناب التّصريح أو للإخفاء والمواربة، وإمّا لقول شيء لا يمكن قوله بطريقة أخرى. والخطأ في الحال الأولى مقصود، أملى على الذّات أن تخفي وتواري وتحجب. ومن الطبيعيّ أن يخفي الشاعر مصادره الشّعريّة، خاصّة ما لم يكن منها معروفا متداولا، بما لا يمسك عليه؛ كأنْ يأتي على سبيل الإيهام أو ما يسمّيه بلاغيو العرب «التّوجيه» بكلام يحتمل معنيين متضادّين يتضايف في حيّزه صمت ما أو «مسكوت عنه» بعبارة المعاصرين. والجهد في إخفاء الأثر ومحوه أو إسكات الأصل وإفحامه، جهد باطل عقيم، لأنّ البيت الشعري الذي ينشأ متنكّرا متقنّعا يمكن أن يظهر أكثر ممّا يخفي.على أنّ الخطأ قد يكون اضطراريّا. ولا مسوّغ له في تقديرنا سوى إرادة الشاعر في قول «ما لا ينقال» أو ما يدقّ عن القول والوصف. وهي إرادة تكاد تبدهنا في كلّ مسالك النصوص الاستثنائيّة في تاريخ القصيدة. وربّما أفضت إلى الإحالة وفساد المعنى بعبارة القدامى، وقد تعذّر على منشئيها أن يظفروا بضالّته ممّا «لا ينقال» لقصور لغويّ أو لأنّ اللّغة لا تعرف كيف تؤدّيه؛ وكأنّ الذّات تريد من اللّغة أن تبلّغها ما ليس تبلغه من نفسها اللّغة. ومن البديهيّ في سياق كهذا أن يحتمي الخطاب بـ»الصّمت» ويكون البيت أشبه بجدار مصمت لا فرجة فيه. فإذا كان من الشعر قديمه وحديثه، ما يشتبه على القرّاء أو طائفة منهم، بل علينا نحن أيضا، فمن حقّ الشّعر علينا أن يحتفظ بقليل أو كثير من غموضه الذي لا ينضب، وأن تلتوي طرقه وتشكل على سالكها، فلأنّ في الشّعر إلغازا أبدا ؛ولكن من دون أن يسوق ذلك إلى استنتاج متعجّل كأن نقرّر أنّ من شرائط الشّعريّة أن تبهم الكلام وتزيده إغماضا وتعمية. فلعلّ الأصوب أنّ الشّعر يفصح عن المعنى الغامض محتفظا له بكامل حقيقته الغامضة، من دون أن يكون قابلا ضرورة للتّرجمة النّثريّة.

blog comments powered by Disqus

مقالات مشابهة

العدالة PDF

Capture

ملحق العدالة

mulhaq-preview

استبيان

الطقس في بغداد

بغداد
30°
36°
Fri
37°
Sat
الافتتاحية