Menu
Al-adala
Al-adala

بسم الله الرحمن الرحيم
وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى
صدق الله العلي العظيم

 في رحيل آخر موسوعيّي العصر: أمبرتو إيكو طوّر السيميائيات الأدبية وفكّك شيفرات التأويل

 في رحيل آخر موسوعيّي العصر: أمبرتو إيكو طوّر السيميائيات الأدبية وفكّك شيفرات التأويل
ادب وثقافة - 1:15 - 24/02/2016 - عدد القراء : 779

في عقده التاسع، ترجل أمبرتو إيكو عن عالمنا مساء الجمعة الماضي، 19 فبراير/شباط 2016، في منزله في مدينة ميلانو الإيطالية، بعد معاناته الطويلة مع السرطان، مُخلِّفًا وراءه حياة حافلة ومضيئة من العطاء العلمي والإبداعي الذي سارت بذكره الرُّكبان في الغرب والشرق. وبرحيل هذا الروائي والمفكر ورائد السيميائيات الإيطالي المرموق، يكون العالم المعاصر قد ودّع آخر الكتاب الموسوعيّين الكبار، وهو الذي كان وجهاً بازغاً من وجوه ثقافتنا المعاصرة الأكثر تأثيراً خلال السنوات الخمسين الأخيرة، وكاتباً ذا حظوة في وسائل الإعلام عبر العالم بأسره. وظلّت كتاباته في قلب النقاش الثقافي والأدبي إلى يومنا هذا، تثير الاهتمام المتعاظم لطرافة موضوعاتها وطرق تحليلها بأسلوبه الخاص الذي يمزج بين سعة المعرفة وبراعة الاستدلال وروح الدعابة والنكتة.
سيميائيات وتأويل
انصرف أمبرتو إيكو (5 يناير/كانون الثاني 1932/ 19 فبراير 2016) في بداية حياته العلمية إلى دراسة فلسفة القرون الوسطى، التي أثمرت أطروحته حول «المسألة الجمالية عند توما الأكويني» في جامعة تورينو عام 1954، تحت إشراف الفيلسوف المناهض للفاشية لويجي باريسون. ومن هذه الجامعة بدأت سلسلة محاضراته، لتتوالى مع الوقت في أعرق الجامعات في العالم، في إيطاليا وفرنسا والبرازيل والأرجنتين والولايات المتحدة. وكانت مثل هذه الموضوعات المتعلقة بعلم الجمال، والسيميائيات، والعمل المفتوح، والتأويل، والعلاقة بين الشفاهي والكتابي والرقمي تقترن باسمه بوصفه مرجعًا لا غنى عنه، وبقيت مناط حديثه في كتبه ومحاضراته وحواراته الكثيرة. وقد ارتبط إيكو بالصحافة منذ أن بدأ محرّرًاً ثقافيًّا في التلفزيون والإذاعة الإيطالية، وهو ما أتاح له أن يتعرّف عن قرب إلى كوكبة من الأدباء والرسامين والموسيقيين، وأن يؤثر على مستقبله ككاتب روائي بدأ محاولة كتابة الرواية منذ سنوات شبابه في عهد موسوليني، كما جاء في «اعترافات روائي شاب».وكان إيكو قد رفض مُبكِّرًا مقولة الأدب الملتزم، منذ أن انخرط في الطليعة الجديدة Neoavanguardia، وساهم في صدور مجلّات ذات توجهات يسارية، كما اشترك وبعض من مثقفي وفناني جيله الشباب في تأسيس مجموعة أخذت على عاتقها الاهتمام بالجماليات الجديدة، من خلال آثار جيمس جويس وإزرا باوند وخورخي بورخيس وغيرهم، وعرفت المجموعة الطليعية باسم Gruppo 63. ورغم إغواء عالم الصحافة الذي كان قريبًا منه، إذ كان صحافيًّا خصب الإنتاج ويكتب، بشكل دوري، أعمدة مرحة للعديد من اليوميات والأسبوعيات الكبيرة في إيطاليا، فإنّ مُدخّن الغليون وهاوي الإسكواش الأسكتلندي لم يترك التعليم الجامعي، فقد واصل سلسلة محاضراته طوال ستينيات القرن، سواء في كلية فلورنسا أو ميلانو للهندسة، ثُمّ لاحقًا في جامعات ساو باولو (1966)، ونيويورك (1969) وبوينس آيرس (1970). ومنذ عام 1975، تولى كرسي السيميائيات في كلية الآداب والفلسفة في جامعة بولونيا الأعرق (وكان الأول من نوعه بالنسبة لكل الجامعات)، ويؤسس- بموازاة ذلك- مجلة (Vesus) الدولية للأبحاث السيميائية، عادًّا الفرنسي رولان بارت أول من دشَّن هذا العلم التجريبي، وهو، أكثر من كونه منهجًا، بمثابة تمفصل بين التأمل والنظرية الأدبية، وبين الثقافتين العالمة والشعبية. ومنذ هذا التاريخ، صار إيكو رائد السيميائيات، كما يتّضح من تحليلاته اللماحة في كتبه: «البنية الغائبة»، و»العلامة: تحليل مفهوم وتاريخه»، و»موجز السيميائيات العامة». مثلما ساهم بالقدر نفسه في بلورة جماليّات التأويل كما يظهر من كتابه «العمل المفتوح»، الذي يبسط فيه أسس نظريته، مبرزًا عبر سلسلة من الفصول التي تركز أساسًا على الأدب والموسيقى، أنَّ العمل الفنّي هو رسالة غامضة ومفتوحة على تأويلات لانهائية، حيث تتساكن مجموعة من المدلولات في قلب الدالّ الواحد. وبالتالي، ليس النص موضوعًا نهائيًّا، بل إنه – على العكس من ذلك- موضوع «مفتوح» لا يمكن للقارئ أن يتلقاه باستكانة، وإنما عليه أن يتدخل ويبذل طاقته التأويلية. وهذا ما سيتوسع فيه إيكو أكثر، من خلال كتابه «القارئ في الحكاية»، حيث يدعو القارئ إلى التعاون مع النص، لأنّ النص وحده ليس بإمكانه أن يقول أيّ شيء. ومساهمةً منه في النقاش المتسارع حول طبيعة المعنى وإمكانيات التأويل وحدوده، يتوقف إيكو عند العلاقة التي تجمع بين المؤلف والقارئ، بقدر ما يعيد التفكير في التأويل ومفهومه وإمكاناته، وفي دور القارئ في عملية إنتاج المعنى، كما في كتابيه، «حدود التأويل» و»التأويل والتأويل المفرط». وكان في حقيقة الأمر يعبر عن قلقه من توجُّه بعض تيارات الفكر النقدي المعاصر، ولاسيما من أسلوب النقد الأمريكي الذي يستوحي أفكار دريدا ويطلق على نفسه «التفكيكية»، التي تصرح للقارئ بإنتاج دفق من القراءات اللامحدودة وغير القابلة للاختيار. ومن ثمة، كان يتحرى وسائل تحديد نطاق التأويلات الممكن قبولها، وبالتالي وسائل تحديد قراءات معينة كتأويل مفرط.ولم تبعد مسألة الترجمة عن تفكيره، فقد عاد إليها في كتابه «أن تقول الشيء نفسه تقريبًا»، إذ ينظر إلى الترجمة ليس بوصفها نظريّة، بل سلسلة «تجارب في الترجمة»، لأنّ العمل من خلالها يستجلي مبادئ عامة ليس إلا. ففي نظره، من المستحيل الترجمة من لغة إلى لغة بمنتهى الإتقان، إذ لا يوجد قطعاً ثمة ترادفٌ دقيق بين الكلمات. التفاوض يتمّ هنا، في لفظة «تقريبًا». وهذه ليست وحدها الإشكالية، بل ما هو «الشيء» الذي نترجمه؟ هل نترجم مجموعة كلمات أم شيئًا أعمق من ذلك؟ يقول إيكو: «نحن عندما نترجم لعبة الكلمات، فهل ندرك أنّها غير قابلة للترجمة غالبًا؟ كلّا… فعلى المترجم، إذن، أن يعثر على لعبة أخرى للكلمات، مُعادِلة». والتفاوض مركزيٌّ في علم الدلالة، كما في السياسة، فليس هناك قيمةٌ لحقيقةٍ مطلقة في نظره. نحن دائمًا ما نتفاوض، وكلّما جعلنا ذلك بيننا مشاعًا كان أفضل.
من العصر الوسيط إلى العصر الرقمي
في حُمّى عصر الميديا وصعود التقنية، كان إيكو يتصدى بأسلوبه المعهود لدعاوى رفض الكتاب الورقي، جازمًا بأنّ الكتاب لا يمكن بأيِّ حالٍ تعويضه أو الاستغناء عنه؛ ففي كتابه «رجاءً لا تتخلّصوا من الكتب»، يستدعي ثقافته الموسوعية بأسلوب يؤثر الإقناع في من لا يزال يشكُّ في قيمة الكتاب وخطورته، قائلًا: «سوف يتطور الكتاب رُبّما داخل مُكوّناته، ورُبّما ازدادت صفحاته أكثر، وإن كان سيبقى كما هو. لذلك، أتساءل كيف يمكن للمرء أن يستغني عن هذا الشيء الرائع الذي يمكن أن يحمله معه إلى أيّ مكانٍ شاء، ويستخدمه في أيّ ظرفٍ كان، على فنن شجرة أو في جزيرة خلاء، صانعاً منه لحظة حبّ داخل مقصورةٍ أو أثناء عطلٍ كهربائيّ؟ عدا هذه الرغبة واللذاذة التي يمكن أن تجلبهما الكتب إذا لمسناها، أو أحسسنا بها، أو تصفّحناها، أو قيّدْنا على هامشها، أو ثنينا زوايا صفحاتها، ثمّ في ما بعد أعدنا اكتشافها وقراءة ما في حواشيها. هذا كُلّه مما لا يمكن أن يعوَّض بحال».وإن بدت المعلوماتية له ثورةً شبيهةً بالثورة التي شهدت الانتقال من التقليد الشفاهي إلى التقليد الكتابي، ورغم ما تشهده وسائط الميديا من احتدام وتطوُّر، إلا أن إيكو كان يؤمن بأننا لا نزال نعيش داخل الحضارة الألفبائية، وقد انخدع مارشال ماكلوهان- في نظره- عندما أعلن عن نهاية مجرّة غوتنبرغ عام 1962. سئل إيكو في أحد الحوارات معه إن كانت تخيفه الرقمية، فردّ: «كلّا. اختراع الطائرة لم يُبعد القطار. واليوم، هناك قطارات الـ»تي جي في» السريعة والفاخرة، مثلما هناك طائرات عادية يعامل المسافرون فيها معاملة العبيد في الماضي. الصورة لم تقوّض الرسم. فالكثير من الكتب الثقيلة التي يصعب نقلها، ابتداءً من الموسوعات والكتب المدرسية، يمكن أن تستبدل بـ»الآيباد». وإذا أنا أردت الاحتفاط بصورة شخصية لجدّي، فلن أجدها بطبيعة الحال عند رافاييل، بل عند المصور الفوتوغرافي. بيد أنَّ ثمة أُناسًا هم على الدوام يشترون اللوحات ليعيشوا في محيط مبهج ولطيف. حتى أنا بدوري، كثيراً ما كنتُ أقول إنَّه من المستحيل أن تقرأ رواية «الحرب والسلم» على شاشة، حتى وجدتني سعيداً للغاية وأنا أحمل معي، من رحلة دامت شهراً في الولايات المتحدة، عشرات الكتب في بعض الغرامات من جهازي الآيباد».ومع قيمة منجزه العلمي والأكاديمي خلال عقدي الستينيات والسبعينيات، إلا أنّ إيكو لم يلفت اهتمام الناس إليه ككاتب حقيقي إلا بعد صدور روايته الشهيرة.
لعنة «اسم الوردة»
كتب إيكو روايته «اسم الوردة» في وقت متأخر (فابري- بومبياني، 1980)، وهي تستوحي أحداثها من العصر الوسيط؛ فلم تكن قصة قتل الراهب التي حدثت داخل دير بينديكتي عام 1327، إلا على الورق حتى ذاعت شهرتها مع «اسم الوردة»، ثم تتحوّل إلى فيلم للمخرج فرانسوا جان جاك آنو وتترجم إلى ما يزيد عن أربعين لغة، فأسرت بسحرها الملايين من القراء عبر المعمورة. فلم تحقق أي رواية في تاريخ الأدب الحديث والمعاصر مثل النجاح المذهل الذي حقّقته «اسم الوردة» التي صدرت في طبعات متعددة للرواية، بل إن إيكو نفسه أعاد نشرها في صيغة منقّحة بعد أكثر من ثلاثين عاماً على صدور نسختها الأصلية. يقول إيكو: «ببساطة، يحدث لكاتبٍ وهو يراجع كتاباً صدر له منذ فترة طويلة، أن يشعر بالحاجة لإجراء بعض التغييرات عليه. وأيّاً كان، فإنّ «اسم الوردة» هو الكتاب الذي كتبته منذ ثلاثين عاماً خلت، قد اتّسم على مرّ الترجمات بأخطاء ارتأيتُ أن أصحّحها من طبعة جديدة إلى أخرى. وفي الواقع، فإنّ الكتاب كان يتطوّرُ باستمرار. لذا كان من المفيد أن أراجعه بصفة نهائية». وعن النجاح المذهل للرواية، ردّ إيكو: «دائماً ما كنت أشعر بتوتُّر عندما أُسأل مثل هذا السؤال، فالجميع يُحدّثني عن هذا الكتاب، كما لو أنّ الكتب الأخرى لا وجود لها. وكذلك غارسيا ماركيز ظلّت روايته «مئة عام من العزلة» تضايقه باستمرار، حتى لو كتب بعدها «فيدر» أو «الكوميديا الإلهية». فقد أصدر إيكو، بعد هذه الرواية اللعنة، روايات لا تقلُّ أهمية من حيث ثيماتها وبناؤها الفني، مثل: «بندول فوكو» (1988)، و»جزيرة اليوم السابق» (1996)، و»باودولينو» (2000)، و»الشعلة السرية للملكة باولا» (2004)، و»مقبرة براغ» (2010)، و»الرقم صفر» (2015). وقد نقل المترجم التونسي أحمد الصمعي أغلبها من الإيطالية، كما صنع الناقد المغربي سعيد بنكراد الصنيع نفسه بخصوص أغلب كتبه النظرية والنقدية، إلى جانب مترجمين آخرين جعلوا من هذا الكاتب ذي الفكر الموسوعي قريبًا من يد القارئ العربي ومُخيِّلته.
انطباعات آخر العمر
كانت الحوارات التي تُجْرى مع أمبرتو إيكو بمثابة فرصة سانحة له حتى يُضمّنها آراءه وانطباعاته العفوية حول قضايا عصره وتحوُّلاته المتسارعة. وبدا في آخرها متذمِّرًا وغير راض عما يجري حولنا من زلازل سياسية وانحطاط أخلاقي وثقافي، ومن أزمة النموذج الرأسمالي للعولمة. قال: «إنّنا نعيش حياة أطْول لكن أكثر رعباً، وهي تضعنا أمام تتابٍع يكاد لا يُطاق من التغيرات. نقاوم ذلك ما استطعنا، لكنه يخلع علينا مسحةً من شدِّ الأعصاب لا يمكن تصوُّرها». كما لاحظ أن ثمة تمجيداً للشرّ حيث يُقدّم مغنّو الرّوك أنفسهم كنماذج إيجابية مادام أنّهم يدافعون عن المخدرات وعبادة الشيطان. وإذا كان تمجيد الشرّ وُجد على الدوام، إلّا أنّه حتى وقتنا الحاضر لم يخرج إلى العلن، واليوم يُعلن على التلفزيون، ويشاهده الأطفال وهم على مائدة العشاء. ففي نظره، توجد ذائقة فساد عموميّة: «شخصيّاً، لا أرغب في مغامرةٍ مع امرأة شابّة تتنزّه بسُرّتها المكشوفة والمثقوبة. أجد ذلك أمرًا مقرفًا. ولكن إذا كان رفقاؤها يجدونه فاتنًا، فإنّه ليس بوسعي أن أحاكمهم، لأنّ عملي يمنعني من أن أحاكم الذوق أخلاقيًّا. إني لم أضع نظريّة في القبح، بل تاريخًا عن القبح حتى أُظْهر ما الذي تغيَّر بالفعل». وعن الكتابة، قال: «لا تُغيِّر الحاضر، يمكنها فقط أنْ تغيّر المستقبل. إقرأْ كتاباً تر الأثر العميق الذي يمكن أن يحدثه فيك، ومع الوقت تتغيّر طريقة تفكيرك وشخصيّتك، وفي الغد، أو بعد غد، سوف تتصرّف بشكل مختلف. وينخدع المثقّفون في كل مرّة لمّا يُطلب منهم فيها حلّ مشكلات العالم». وسئل إن كان متشائمًا: «أنا قلق. ليس عليَّ وقد تجاوزت الثمانين عامًا، ولكن على أولادي. هل لاحظتم كيف غدت الصحف، في الآونة الأخيرة، تنبئنا بمستقبل رهيب». وبصدد أسلوب عمله، قال: «ليس عندي منهج. بالنسبة إلى الروايات، فإنّ العمل الحقيقي لكتابتها إنّما يكون في الريف. وعندما أكون في مدينة، أو في بلدة، أقوم بأبحاثي وآخذ الملاحظات؛ أي أُحصِّل في أثناء الحياة المدنية، وأكتب وسط الحقول. لديّ عشرة آلاف كتاب في منزلي الريفي. ومن نافذتي، أسرح بنظري في التلال إلى ما لانهاية». وبعد رحيله، لا يزال هذا النظر سارحًا، ولكن بلا عينين، بل عبر ضوء كلماته.

blog comments powered by Disqus

مقالات مشابهة

العدالة PDF

Capture

ملحق العدالة

mulhaq-preview

استبيان

الطقس في بغداد

بغداد
22°
30°
Mon
29°
Tue
الافتتاحية